د. محمد بن إبراهيم الملحم
في خبر ورد مؤخراً فقد أعلن وزير التربية المصري توجه وزارته إلى تقليل محتوى المناهج في المرحلة الثانوية استهدافا لبناء المهارات بدلا من الحشو المعرفي الذي لا يقدم للطالب إلا مزيداً من التحدي مع الزمن وصعوبة التغلب على متطلبات المحتوى الكبير، وهذا التوجه ليس بجديد عالميا فقد سلكته عدة دول متقدمة تعليميا مثل فنلندا وسنغافورة ومؤخراً توجهت له بريطانيا وبعض الولايات الأمريكية وفي 2020 أصدرت الجهة التعليمية المختصة في الهند قراراً مشابها لتخفيض المناهج والتوجه نحو «المناهج المركزة»، ووضحت أن هدفها هو إفساح المجال لمزيد من التفكير النقدي والتعلم القائم على التحقيق والاكتشاف والمناقشة والتحليل بحيث يتم التدريس والتعلم بطريقة أكثر تفاعلية، سواء من خلال تشجيع الأسئلة أو تطبيق الأنشطة الممتعة أو تحفيز الأفكار الإبداعية أو دعم الطرائق التعاونية والاستكشافية وذلك لتحقيق تعلم أعمق، ونص القرار على أن تقليل المحتوى يجب أن يصحبه بالتوازي تغييرات في كتب المدارس حيث تستهدف الكتب المدرسية المادة الأساسية الضرورية (إلى جانب المناقشة والتحليل والأمثلة والتطبيقات) وبالتالي سيتم خفض وزن حقائب المدرسة والكتب المدرسية بشكل ملحوظ، كما تم تقديم تمويل لتحسين المدارس وتدريب المعلمين وتطوير إطار منهجي جديد والتركيز على التعلم والإلمام بالمهارات الأساسية.
تخفيض المناهج وتركيزها في أهم المهارات والمعارف هو أحد نماذج تطوير التعليم عبر العالم، وسوف نلقي الضوء على هذا النموذج للوقوف على المفاهيم المرتبطة به ومنطلقاته الفلسفية التربوية ونتلمس ما هي قيمته الكبرى لتحقيق أهداف التعليم وهل تستحق فوائده ما يبذل مقابلها من تضحية كبيرة بالكم المعرفي الذي يصعب على كثير من مسؤولي التعليم التنازل عنه!
دائماً يشعر المعلمون الجادون أنهم بحاجة لمزيد من الوقت «لتغطية» المنهج بكل متطلباته من استخدام الوسائل المعينة وإعطاء التدريبات الكافية التي تكسب الطلاب المهارات وعمل التجارب في المختبر بل وجعل الطلاب يقومون بها بأنفسهم، ولكن يكتفي أكثرهم إن لم يكن كلهم تقريبا (بسبب محدودية الوقت بالنسبة لحجم محتوى المنهج) بالاكتفاء بشرح الموضوعات مع تطبيق تدريبات محدودة على بعض الأمثلة وحل بعض المسائل وربما إجراء تجربة واحدة أو اثنتين في المختبر (للمواد المرتبطة بذلك) وهذا الوصف لاجدال فيه فهو واقع معاش يشهد به على الأقل 90 % من طلاب اليوم وخريجي التعليم بالأمس الذين بعضهم اليوم معلمون ومشرفون وبعضهم مسؤولون في التعليم! وهذه المشكلة تكاد تكون عالمية تقريبا، وإن انجراف تعليمنا فيها منذ سنوات طويلة (بل أجيال) ليس غريبا عند النظر إلى استيراده النظم والمناهج من الخارج وعدم وجود نموذج سعودي (أو حتى عربي) خاص يعيش بطموحات خاصة لنهضة تعليمية نوعية متفردة، وعلى المستوى العالمي ينظر بعض الكتاب المهتمين بهذا المجال إلى أن الحل بسيط ويتمثل في تقليل المحتوى ولكنه غالبا يواجه بمقاومة النظم التعليمية الرسمية التي ترى أن كل شيء في مناهجها يجب أن يتم تغطيته، وهذا الاعتقاد كما يقول نيلسون Nelson وآمبروس Ambrose في كتابات علمية لهما حول هذا الموضوع تشير الأبحاث أنه نادرا ما يكون صحيحًا أو له قيمة حقيقية، وتكثر المفاهيم الخاطئة الشائعة حول محتوى المقرر في عدة أفكار مثل «كلما زاد المحتوى الذي أغطيه، تعلم طلابي أفضل» وكذلك فكرة أن «تقليل المحتوى هو تدليل للطلاب» وهي معتقدات لا يدعمها دليل علمي.
النموذج التعليمي التقليدي حيث المنهج الكبير ينتج عنه فهم سطحي يفتقر إلى العمق، بينما في ظل تقليل محتوى المنهج إلى أساسياته الرئيسة، فإن المعلمين يتمكنون من الفهم العميق لأن التركيز التدريسي المصاحب له يساعد الطلاب على الغوص في المفاهيم الحاسمة جدا، وهو ما يشجع على استكشاف أكثر عمقا للمادة الدراسية، ويضع الأساس لمسيرة مدى الحياة في طلب المعرفة، ويعزز الفضول الفكري في نفس الوقت. وإن تبسيط المناهج الدراسية يصبح محفزًا لممارسات تعلم تحويلية تتجاوز الحفظ الآلي لتمكن الطلاب من أن يصبحوا متعلمين مدى الحياة لديهم شغف حقيقي بالفهم. ولنتذكر أنه في حين أن كم المناهج الكبير يرهق الطلاب لإتقان المفاهيم الأساسية فإن تقليل هذا الكم يحسن الاحتفاظ بالمعرفة وتطبيقها العملي في سيناريوهات الحياة الواقعية، وهو ما يسد الفجوة بين الفهم النظري والتطبيق، لتنمو مع هذا الربط بينهما مهارة التفكير النقدي، التي تمكنهم من التكيف وتطوير مهارات حل المشكلات المطلوبة للتعقيدات التي سيواجهونها في حياتهم بعد المدرسة.
** **
- مدير عام تعليم سابقا