د. عبدالحق عزوزي
لم يكن للمسلمين يوماً من الأيام مشكل في الحوار ولا في التعايش السلمي ولا في بناء الأسرة الإنسانية الواحدة ولا البيت المجتمعي المشترك انطلاقاً من تعاليم دينهم الحنيف؛ فلقد التقى المسلمون بعد فتوحاتهم على امتداد القرن الأول الهجري مع شعوب كانت على جانب كبير من الحضارة وازدهار الثقافة، كالفرس والرومان والهند، ووقع التمازج والتلاقح..
وتعج كتب التاريخ بأمثلة من ذلك منها ما أورد الدكتور مصطفى السباعي في كتابه «من روائع حضارتنا» ونقل عن خلف بن المثنى وصفه للحلقات العلمية الشعبية التي كانت تنعقد في العهد العباسي الذي قال فيه: لقد شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يعرف مثلهم في الدنيا علماً ونباهة، وهم الخليل بن أحمد صاحب النحو (وهو سني)، والحميري الشاعر (وهو شيعي)، وصالح بن عبد القدوس (وهو زنديق ثنوي). وسفيان بن مجاشع (وهو خارجي صفري)، وبشار بن برد (وهو شعوبي خليع ماجن)، وحماد عجرد (وهو زنديق شعوبي)، وابن رأس الجالوت الشاعر (وهو يهودي) وابن نظير المتكلم (وهو نصراني) وعمر بن المؤيد (وهو مجوسي) وابن سنان الحراني الشاعر (وهو صابئي) كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار، ويتحدثون في جو من الود لا تكاد تعرف منهم أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في دياناتهم ومذاهبهم!
وكان قد ذكرني وزير الإعلام السابق والمفكر المغربي الكبير المرحوم محمد العربي المساري بسابقة وقعت في تاريخ المغرب، أشهرا قبل استقلاله، وكان قد كتب كما كتبت عنها بإيجاز إذ في فاتح دجنبر 1955، بعد أسبوعين من عودة محمد الخامس من المنفى وبضعة اشهر قبل استقلال المغرب، شهد القصر الملكي احتفالا فريدا من نوعه، إذ إن العاهل العائد لتوه من المنفى، ترأس يومذاك مراسيم توشيح المونسينيور أميدي لوفيفر، عرفانا بجهده في إقرار التفاهم بين المغاربة والفرنسيين أثناء الأزمة الحادة التي تميزت بها الفترة الأخيرة من العهد الاستعماري. وقد حرص المرحوم محمد الخامس علي أن يولي الأسبقية لتلك البادرة في جدوله الزمني، وهو منهمك في تشكيل الحكومة التي كانت ستنهض بالتفاوض على الاستقلال.
وكان ذلك العمل الرمزي ذا أهمية في انشغالات المغاربة، غير أنه كان في حد ذاته تكريسا لسلوك استقر في عمل الحركة الوطنية المغربية منذ الثلاثينيات، من القرن الماضي. ولم يكف الوطنيون قط عن إقامة حوار متدفق مع النخبة في كل من فرنسا وإسبانيا، قصد إقامة جسور للتفاهم والتعاون. والدليل على ذلك مسارعة كتلة العمل الوطني إلى تأسيس مجلة «مغرب» في باريس وذلك من أجل أن تكون منبراً للحوار.
وفي تلك الفترة وقع شيء كان له ما بعده. إذ بتاريخ 15 فبراير 1952 نشر المونسينيور لوفيفر ممثل الفاتيكان بالمغرب، رسالة أوضح فيها أن للكنيسة دوراً متميزاً في بلد إسلامي، وخاصة أنه بلد مستعمر. وعرفت الوثيقة المشار إليها بالرسالة، وكانت محررة بأسلوب غير سياسي، ولكنها ألحت على أن دور الكنيسة لا يقتصر فقط على التبشير بالرحمة، بل بالعدل أيضا. وعلى الفور- كما يوضح انياس ليب في كتاب له نشره في غمرة الأزمة، سنة 1954 - قام عالم من القرويين، بفاس بالتعبير عن تأييده هو ونظراؤه في الجامعة العريقة، للرسالة، ذاكراً أنه آن الوقت لتصفية نهائية لسوء التفاهم بين النخبتين المسلمة والمسيحية. وأما على الجانب المسيحي فإن الرسالة كما يقول ليب لم تستقبل بحماس إجماعي، وعابت الإدارة على المونسينيور أنه تدخل في السياسة.
وفي هذا الباب كتب مانويل كروز الذي كان مديرا لجريدة أسبانا التي كانت تصدر بطنجة، ممجداً محمد الخامس قائلاً: إن ذلك العاهل كان قائداً خارج المألوف. وكان طبعه السمح قد جعلنا كلنا متسامحين. وكانت قدرته على التفاهم قد حولتنا كلنا إلى متفاهمين. وكان إيمانه الديني قد جعلنا كلنا نتطلع إلى الله. وأضاف مانويل كروث: إن محمداً الخامس لم يكن فقط سباقاً إلى تحرير شعبه وشعوب العالم الثالث، بل سباقاً إلى التبشير بالتعايش، والحوار، والتفاهم بين الشعوب.
وما أحوج السياسيين والصحافيين ورجالات الدولة والإنسان العادي إلى تمثل هاته الوقائع التاريخية ليتركوا مواضيع التشويه بالرسل واللحم الحلال والإدماج والمسلمين والهجرة جانباً بعيداً عن الحسابات السياسوية الضيقة ذات الحمولة الانتخابية الكبيرة والخراب الإنساني والحضاري الذي لا يمكن وصفه.