د.محمد بن عبدالرحمن البشر
اختار إمام مسجد لخطبته في يوم الجمعة موضوعا جيدا يتعلق بالتعامل الإنساني داخل المجتمع، وكان عنوانه: التفاؤل والتسامح والتغافل، وستقتصر هذه السطور حول التفاؤل والتسامح، وهما ركيزتان من ركائز التعامل الإنساني، و فضيلة من فضائل الخلق الرفيع، وكفى بقول رسول الهدى: إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق، فالمجتمع في العصر الجاهلي قد تحلى بالكثير من الأخلاق الفاضلة التي زرعها الأنبياء السابقون عليهم السلام، مثل إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى، وما قبلهم وما بينهم، كما أنهم في عصرهم الجاهلي من ذاتهم قد تعارفوا على قيم نبيلة، وأخرى غير جيدة، مثل وأد البنات، أو عدم الممانعة في ارتكاب بعض الممارسات التي حرمها الإسلام، وعدها من الكبائر، وقد صاغ الإسلام للمسلم نهجا أخلاقيا، يساعد في تعامل مجتمعي أسلم وأجدى وأنفع.
من تلك الأخلاق التي كانت في الجاهلية، وأبقاها الإسلام ورسخها: التسامح والعفو، وسير الأنبياء وأفعالهم وأقوالهم في هذا الباب تزخر بها الكتب، كما أن التوراة والإنجيل كما نزلت، والقرآن الكريم جميعها مليئة بالحث على العفو والتسامح، قال الله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وقال تعالى: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}، وكلا الآيتين تبين العدل في الحق، ولكن جعل الله تعالى للعفو مكانة أعلى وأسمى من الحق الإنساني، فربط الأجر به سبحانه وتعالى، فكفى فضلا أن يكون الأجر من الله، وليس من العباد، وهذه تجارة عظيمة، واستبدال مربح، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، والعفو عند المقدرة أبلغ من العفو عند الإساءة لدى القرناء، فعندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا منتصرا لم تأخذه العزة بالإثم، ولم ينتقم من الذين آذوه وقاتلوه، وإنما قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وهذه شملت كل من حاربه قبل الفتح، سواء من قريش أو غيرهم، وعندما جاءته ابنة حاتم أسيرة عفا وصفح عنها وأطلقها، وكلنا نعرف قصة كعب بن زهير الذي أرسل قصائده في ذم المسلمين، وعاد تائبا، وقال قصيدته المشهورة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وألبسه بردته.
ومثل ذلك نجده كثيرا في كتب التاريخ سواء في العصر الجاهلي، أو بعد الإسلام، وفي جميع أنحاء العالم الإسلامي والعربي بشكل كثير وواضح، ولدى شعوب أخرى.
والتفاؤل أمل وعلاج نفسي عظيم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل حتى بالأسماء، بل وغير بعضها، وكان يكره التشاؤم، وقال عليه الصلاة والسلام: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، ويعجبني الفأل. وكانت العرب تتشاءم بهذه الأشياء، كما أنها تتفاءل بالوجه الجميل، والاسم الحسن، وكذلك المطر، والخضرة، وغيرها، فما أجمل التسامح والفأل.