عبدالمحسن بن علي المطلق
وُصف في ديننا ما لا يُقبل المسّ به بتاتاً بـ(الضرورات الخمس) التي يلزم الحفاظ عليها، وهنّ (الدين والنفس والعِرض والمال والعقل).
وهي (متفاوتة) من ناحية الترتيب فيما بينها من ناحية قوة الضرورة، أو مع مُراعاةٍ في التالي.. إن حفظ الدين يُسترخص لأجله النفس والمال، وحفظ النفس مقدّم على حفظ المال، فإنها تفتدى بالمال، والمال يمكن استدراك ما يفوّت منه بخلاف النفس، وحفظ العرض.. يفتى بالمال، بل بالنفس، وحفظ العقل يُغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره من الضروريات بالعذر.
وقد نّوّه الشيخ «عبد الله الجديع» - سلّمه المولى تعالى - إلى سبب (درجات) ذلك، أن (تفاوتها باعتبارات تدرك من أحكام الإكراه، وحال الضرورة ؛ لأن ترتيب الضرورات ليس له قانون واضح يعول عليه، فهي لا يندرج ترتيبها ضمن أصول المقاصد، وإنما الترتيب صحيح في ترتيب المصالح من حيث الجملة..) ..الخ - بتصرف -.
وفي التالي.. يُقاس - مقاربةً - أعني الغوالي، مما إحداها ثمنه منه وفيه، ومعنى فيه: أي ما لا يحتاج لتعليلٍ يُساق!
فهل تجد عاقل يسأل مثلا عن غلاء الذهب!
فأبسط - بالله التوفيق - بإلمامة عما هو أعزّ، مع تأكيدٍ أني أحصر كلّ تلكم، فقد يكون هناك ما غاب عنّي، كما أن هناك تداخلاً بينها وبين ما تقدّم من الضرورات، كالمال.
وهنا علينا استحضار قاعدة الكل مسلّم بها، بين أبجدياتها (كلّما صعب نوال الشيء، بالتالي صعب التفريط فيه..)، وهذا لا مراء فيه!، وهاكم أمثلة للجميع ماثلةً، في الولد.. الصحة.. الوطن.. المال.
فـ«الولد» غالٍ لأنه يشقى الوالدان عليه، بين عناية فتربية ..الخ، وبالذات الأم التي تجد ما يداني مُنازعتها للموت ساعة الولادة، فكان لها (والله أعلم) ثلاثة أرباع الحقوق، ولا عجب فكلّ شيء يقيّم بمقداره.
وأزيدكم عجباً أنهما هما من يسعيان لتحقيق هذا المطلب، وكم ممن تأخّر الحمل فدار الزوجان العيادات في محاولة.. أو حتى تنقيب عن الأسباب!
كما و«الصحة» ثمينة، بل وُصفت بـ(التاج) على هامة من يملكها، ما يجعل أقل الناس وعياً لا يُفرّط فيها!، ألا يكفي أنها إن ذهبت فقلّما تعود الحال إلى ما كانت، إلا ما ندر.. فأي جرح (شبه عميق)، إذا كتب الله أنّك تبرأ منه، ففي الغالب لا يعود الوضع كما كان؟! لعل هذا يبقى كـ(درس) ليعلّمك قيمة هذا التاج.
أما «الوطن» وما أدراك ما الوطن، فحسب جملة لأحد قادة «فيتنام».. (لئن كان العدو غبيّاً، فإن العميل أغبى منه)، وزاد .. بل تمم تلكم القارعة أحد قادة الاستعمار «أحقر من تعاملنا معه.. من سهّل لنا غزو بلاده..»!
والتاريخ سوّد في صحائفه سير تلك النوعيات، من بينهم مَن كان السبب في كارثة (سقوط بغداد) حاضرة الخلافة الإسلامية يومئذ في أيدي التتار، عليه ما على كل خائن من الخزي والشنار، حتى قال فيه (الزركلي) ومقتله: «وهناك روايات بأن مؤيد الدين - يعني ابن العلقمي - أهين على أيدي التتار، بعد دخولهم، ومات غماً في قلة وذلة»، انظر في «سير أعلام النبلاء» للذهبي رحمه الله (الطبقة الخامسة والثلاثون).
كذلك «المال» عزيز لأن تحصيله كذلك، وهنا أورد مصداقاً لهذا هذه اللطيفة (وكم هي اللطائف حقّ، إلا أنها لتُستساغ.. تصاغ على وجه من الدّعابة (ناول أحد التجار «نادل» بالمطعم عشرة دولارات.. فتعجّب قائلاً:
ابنك بالأمس كان هنا، وأعطاني مئة دولار!، فأجابه:
ابني والده - يعني ذاته - مليونير، وأنا أبي كان موظف بسيط، وبالكاد استطاع يصرف علي). أحسب أن الدلالة من هذه واضحة، بل استثقل أن أُقشّر عن عصاها، فكفى أن وُلد - الابن - وبفمه ملعقة من ذهب لا يكترث بموضوع الصرف، خلاف الأب.. الذي واصل الليل بالنهار ليجمع!
.. وجماع ما تقدّم آية وصفت الوصول للبلاد البعيدة، أنها لا تُبلغ (...إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ) مما جعل ديننا - والله أعلم - من الرُخص فيه.
توقيع..
أحسب أنه لا حاجة لإعادة تنبيه مما تقدّم أن الأعز هنّ (الضرورات الخمس..) أعلاه.