مصطفى رجوان
قُدّمت قراءاتٌ كثيرةٌ في كتاب «الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي» للبلاغيّ المغربي سعيد العوادي، رغم صدوره حديثاً عن دار أفريقيا الشرق (2023)، منها ما تضمّنه الكتاب الجماعي الذي أسهمتُ في تنسيقه: «الطّعام أفقاً للقراءة» (كنوز المعرفة، 2024)، وهي مواكبةٌ محمودةٌ وإيجابية، لكنّها تضعُ من جاء متأخّراً مثلي، وهو يحاول تقديم قراءة في الكتاب، في حرج كبير؛ إذ أريدُ تقديم إضاءة لهذا الكتاب المضيء الذي فتّح عيوننا على أهميّة شيء قريب منا بينما كنّا نمدُّ بصرنا إلى السّراب البعيد. لذلك، أريدُ التّركيز على هذا الحدث البلاغيّ في ذاته، وعلى سياق تأليف هذا الكتاب المنتمي إلى التوجّه الجديد نحو البلاغة الثّقافية.
يطلُع كتاب «الطعام والكلام» للبلاغي سعيد العوادي من وسط ركام النتاجات البلاغية التي ظهرت في الآونة الأخيرة، لينحو بالبلاغة العربية منحى غائباً عنها في الدراسات العربية المعاصرة هو المنحى الثّقافي. ولعلّ المتابع للدراسات البلاغية والنقدية عامة يلاحظ المباحث المكرّرة، ولعلّ القارئ العام، وكذلك الباحث المختصّ، قد سئم من العناوين التي لم تَعُد تغري بالقراءة. من هنا، ترك الأستاذ العوادي تلك الطريق المزدحمة بالباحثين، ومضى وحيداً في طريق تبدو في أوّل الأمر موحشة.
على أنّ الباحث سعيد العوادي لم ينقل البلاغة هذه النقلة من خارجها بل من داخلها، وهو أمرٌ لا يحدثه إلّا خبير بمسالكها، ولا يلاحظه إلّا من عاش في كنفها وقتاً ليس باليسير، فهو ابن البلاغة العربية المعاصرة، وقد تدرّج في مباحثها، فبحث في البلاغة القديمة، في البديع، والصّورة، وبلاغة القرآن، وبحث في بلاغة الحجاج وبلاغة الجمهور، وقد وصل إلى هذه المرحلة من التّفكير البلاغيّ بعد نضج كبيرٍ في المباحث التقليدية.
إنّ أوّل فكرة يمكن أن نشير إليها هي فكرة الكتاب في حد ذاتها، فقد جعل الباحث الطّعام أفُقاً للتّفكير والقراءة متجاوزاً النظرة البيولوجية الضيّقة، ونقله من الاحتكار السوسيولوجي والأنثروبولوجي والتاريخي، إلى مجال الدراسة البلاغية والأدبية، وهي مغامرةٌ بحثية كبيرة، لكن في الوقت نفسه توازيها رحلة قرائية مشوّقة تشدُّ القارئ بداية من العنوان.
يعترض بعض البلاغيين التقليديين على هكذا بلاغة بدعوى مخالفة سمت البلاغة العربية، لكنّ الثّقافة العربية تعتمد هذا المورد في التعبير والتّأثير، فالقرآن الكريم يعجّ بذكر ألوان الطعام والشّراب ليؤثّر في متلقّيه الضّمني، أفلا تكونُ مواضع الطّعام في القرآن موضوعاً للبحث؟ كذلك يعجُّ الشّعر القديم بالطّعام الذي يسنُدُ قيمة الكرم، ويعجّ به كتاب «البخلاء» للجاحظ، وكذلك كتب الطّفيليين، وكلّها مصادر من تراثنا العربيّ يعتزّ بها هؤلاء البلاغيون، وقد درسها الأستاذ سعيد العوادي في كتابه. كما يغيبُ عنهم أنّ البلاغة دينامية بطبعها وتتكيف مع السياقات المتنوعة، وليس من المعقول أن تظلّ البلاغة لصيقةً بتفكير القدماء، وإنّما أن تلبّي حاجات سياقنا المعاصر وأن تجيب عن أسئلته.
يقول الباحث: «أعتقد أن التحولات المهمة التي مسّت علم البلاغة اليوم، من شأنها أن تفتح أمامنا أفقا جديدا لقراءة هذا النمط من الخطابات؛ وهو أفق يتجاوز القراءة التعليمية الضيقة التي عمّرت ردحا من الزمن، وحصرت اهتمام البلاغة العربية في تسمية الظواهر. ويتطلع إلى قراءة ثقافية حضارية، يتحاور فيها التعبير مع التفكير والأنساق مع السياقات، وتفتح فيها أبواب النصوص ونوافذها على مسرح الحياة الاجتماعية والثقافية» (ص 15).
ينتمي هذا الكتاب، كما أشار صاحبه، إلى «بلاغة الحياة» وهي بلاغةٌ في مقابل بلاغة النّصوص التي يقتصِرُ فيها النّظر على بنية النصّ، بل الجملة والآية والبيت. ويريدُ به إعادة البلاغة سيرتها الأولى كما بدأت مع أفلاطون وأرسطو والجاحظ في السياق العربيّ، حينما كانت تجيبُ عن قضايا المجتمع والإنسان، لا حبيسة البنية المغلقة.
يلاحظ قارئ كتاب الأستاذ سعيد العوادي احتفاءه بالجاحظ. في الواقع، إنّ الجاحظ صاحب هذا المنزع الثقافي في البلاغة العربية، والكتب النابضة بالحياة، التي نسمعُ فيها أصواتاً من مختلف طبقات المجتمع، وهو الكاتب الذي، كما قال الباحث، قد «سبق زمانه حين عرف أنّ البلاغة لا يقتصر موضوعها على القرآن الكريم والشّعر الجميل، بل هي تسري في خطابات الحياة اليومية عند البخلاء واللصوص والباعة والشيوخ والنساء والأطفال» (ص 16).
تفطّن الباحث سعيد العوادي، كذلك، إلى غياب أسلوبية الإمتاع عند البلاغيّ العربي، وهي أسلوبيّة أصيلةٌ في كتابة الجاحظ، وعبد الفتاح كيليطو حديثاً، وهما ضمن سلسلة من النقّاد البلغاء الذين لا تخفى علاقات التّأثير والتّأثّر بينهم. فسمّى العتبات مسمّيات طعامية، مثل «بيضة البقيلة» وهي استشهادات جاءت في بداية الكتاب، و»مفتّحة» مكان «مقدّمة»، وسمّى الفصول أطباقاً، والخاتمة «تحلية»، ولائحة المصادر والمراجع «مطبخ الكتاب». كما استعمل أسلوب المراوحة في الموضوعات، التي تنوّعت بين القرآن الكريم والمصطلح البلاغيّ وسرود الطّعام في التراث العربي، وبين النّقد والشّعر والنّثر.
ظلّ البلاغيّ يعيشُ على هامش الحياة الاجتماعية والإعلام المرئي والمسموع ووسائل التواصُل، يحبس نفسه داخل الكتب، في حين أنّ من أدواره تحليل جميع الإنتاجات الثّقافية مثل الموسيقى والسينما، والإسهام في النقاشات الاجتماعية والسياسية؛ أي أن يكون في صلب هذه النقاشات الحيّة لا خارجها. ولعلّ الباحث نفسُه قد لاحظ مدى مواكبة الإعلام المرئي والمسموع لهذا العمل البلاغيّ، واستضافته في أكثر من قناة محليّة وعربية، بينما لم يواكب هذا الزخم أعماله البلاغية السابقة.
قد يبدو عنوان «الطعام والكلام» انصياعاً وراء التزيين اللغويّ، لكنّه لفتة عميقة والنواة التي تنامى منها الكتاب، فقد «ظلّ معنيا بإبراز العلاقة بين الطعام والكلام وفق منظور بلاغي ثقافيّ منفتح على مقاربات نسقية وسياقية، حيثُ لم يبتعد الكتاب قيد أنملة عن أثر الطعام في الكلام، بما يمدّه من تعبيرات مجازية ورمزية تبني جسوراً من التفاعل مع محيطنا الواسع، وعن أثر الكلام في الطعام حين يصبح حاملاً له ومعبّراً عنه كما في حالة الطعام التراثي الذي أوصلته لنا موائد اللغة» (ص 280).
لقد كرّس الأستاذ سعيد العوادي كتاب «الطعام والكلام» للطعام في تراثنا البلاغي، وهيَ دعوة إلى إعادة تذوّقه بنفس جديد، وسند هذا العمل بعمل آخر هو «مطبخ الرواية: الطعام الروائي من المشهدية إلى التّضفير»، الذي يدرُس أثر الطعام في الرواية أكثر الأجناس الأدبية استيعاباً لحالتنا المعاصرة. ليشكّل الكتابان معاً مبحثاً متكاملاً يجمع بين التراث العربي والأدب العربي المعاصر، وحلقةً ضمن سلسلة أعمال بلاغية ثقافية منتظرة من الباحث.
أعودُ في النّهاية لأؤكد قيمة هذا الحدث البلاغيّ الذي لم يأت التنويه به في مجموعة من المقالات وحصد تفاعلاً كبيراً من باب المجاملة أو الصّدفة، وإنّما لأنّه أحدث رجّة في وعينا البلاغيّ العربي المعاصر ودينامية في تلقّي الأعمال البلاغيّة، وهو عملٌ لا نأملُ أن يوقف سيل الأعمال البلاغية الكلاسيكية ولكن أن يشكّل تنوعاً في الاتجاهات البلاغية المعاصرة.