أ.د. محمد خير محمود البقاعي
عدت إلى ليون، إلى البيت المشترك مع فيليب غانيير وقد قارب العام الدراسي على الانطلاق، وكان علي مراجعة أستاذي لاستكمال موافقات التسجيل فعرضت عليه ما قرأته وما جمعته من مصادر فسر وطلب مني أن أجدد حضور بعض دروس البلاغة والأسلوب، ووقع لي استمارات التسجيل، واكتملت إجراءات التسجيل بسرعة بانتظار بدء العام الدراسي.
عدت إلى المنزل ووجدت رسائل البنك يخبرونني أن الرواتب لم تودع منذ شهرين والرصيد على وشك النفاد، فاتصلنا بالسفارة فلم يكن لديهم إلا التوصية بالصبر وأن الأمور في طريقها إلى الانفراج.
تسرب القلق إلى نفسي ونفوس الموفدين والموفدات وبدأت رحلة التفكير بمورد لتمويل الاحتياجات الضرورية من سكن وطعام ونقل وبدأ الطلاب والطالبات في البحث عن عمل وخطر ببالي أن أحدّث أستاذي وأصدقائي بالأمر؛ بدأت بفيليب الذي فاجأني بالقول: لا تهتم، إذا تأخرت الرواتب فهذا لا يعني أنها لن تدفع وأنا سأتولى إيجار البيت وتوابعه من ماء وكهرباء وغاز حتى تعود الأمور إلى نصابها، فأكبرت فيه مبادرته وبقي علي مراجعة البنك لمحاولة الحصول على مبلغ شهري يغطي مستلزمات الطعام والشراب والمواصلات فوافقوا على أن يكون ذلك لمدة ستة أشهر وبمبلغ يعادل 75% من الراتب الذي كان يودع بفائدة منخفضة ولم يكن أمامي إلا الموافقة.
حدثت أستاذي بالأمر ففكر مليا ثم قال لي راجعني غدا فشكرت له اهتمامه، وفي اليوم التالي التقينا فطلب مني مراجعة مدرسة ثانوية ذكر لي اسمها وعنوانها واسم السيدة التي أطلب رؤيتها فبكرت في الخروج في اليوم التالي وشربت القهوة في مقهى قريب من المدرسة.
وبعد أن دخل الطلاب وهدأت الجلبة توجهت إلى باب رأيت الأساتذة يدخلون منه فاستوقفني البواب الذي لم يألف رؤيتي فأخبرته أنني على موعد مع السيدة بريجون بناء على اتفاق مع البروفيسور رومان فاتصل وجاء الرد بالإيجاب فرافقني البواب إلى المكتب، ولما دخلت رأيت سيدة في غاية الأناقة قدرت أنها في الأربعينيات فألقيت التحية فردت بلهجةً فيها كثيُر من الرزانة وطمأنة المخاطب، وسألتني عن كثير من شؤون الدراسة والسكن وموضوع دراستي، وكأنما كان الأمر اختبارا للغتي الفرنسية وقدرتي على التعبير الواضح السليم مما ينعكس على أدائي أمام التلاميذ.
مر بعض الوقت ونحن نتحدث وجّهتني بعدها إلى مكتب ملأت فيه بعض النماذج وطلبوا مني الحضور في اليوم التالي مبكرا وسيكون جدولي جاهزا حسب أوقات التلاميذ.
لم تطل مدة عملي في المدرسة حتى فاجأني أستاذي بأن الوظيفة لم تعتمد لها ميزانية وربما يستغرق الاعتماد وقتا، وأنهم أخبروه بوجود وظيفة معتمدة في مدينة مرسيليا، وأشار علي بشد الرحال فعزمت وشددت الرحال إلى المدينة المتوسطية التي تكثر فيها الجاليات وتتداخل اللغات وما إن وصلت حتى رأيت البحر يعانق الجهة الغربية من المدينة عبر ميناء تاريخي تحيط به المقاهي والمطاعم وفي يوم السبت يجتمع الصيادون على رصيف الميناء لبيع أسماكهم الطازجة.
قضيت الأيام الأولى في بيت صديق لباتريس ساعدني في البحث عن شقة صغيرة في مكان قريب من الميناء في منطقة أثرية اسمها «مًونتي دي زاكًول»؛ وهو طريق صاعد مبلط بالحجارة السوداء ينتهي إلى كنيسة تاريخية ومربع أثري. كانت الشقة غرفة نوم وزاوية لإعداد الطعام وحمام، اتصلت بفيليب فحمل إلي فراشا وسريرا وثلاجة صغيرة وأدوات طبخ، وساعدني في اقتناء طاولة للكتابة. كانت الشرفة مطلة على الميناء وكان أمتع الأوقات في المساء والأنوار تتلألأ وقوارب الصيادين تجوب المتوسط.
أما المدرسة فاسمها ثانوية «مون غران» Le lycée Montgrand -Marseille.
كان العمل فيها مريحا ومشوقا مع مدرسين ومدرسات على جانب كبير من دماثة الخلق وحب الاطلاع، وكانت استراحة الغداء فرصة لتجاذب أطراف الحديث.
قضيت عاما دراسيا مفيدا وممتعا لي وللتلاميذ كما صرحوا في لقاء آخر العام.
كنت خلال العام قد تواصلت مع أستاذة في جامعة إكس أن بروفنس Aix em provence أوصاني أستاذي بالتواصل معها اسمها كلود أودببير CLAUDE AUDEBERT أستاذة ألأدب والشعر العربي في جامعة إكس ففعلت ورحبت باتصالي وأخبرتني أن أستاذي اتصل بها ورشحني لوظيفة شغرت في قسم اللغات مسماه LECTEUR (محاضر)، فأبديت رغبتي التامة وطلبت مني القدوم إلى الجامعة لاستكمال الأوراق المطلوبة ورؤية رئيس القسم.
كنت أتردد يوما في الأسبوع إبان تدريسي في الثانوية في مرسيليا لاستكمال نصابي تعرفت هناك على الأستاذ الذي سأتعاون معه، وهو فرنسي من أصل سوري متزوج من فرنسية ولديه أسرة يقيم في ريف مدينة إكس، فلما علم بخبر التحاقي بقسم اللغات اتصل بي ودعاني إلى غداء للتعرف إلى صديق له مدرس في قسم اللغة العربية فرع اللهجات، وكان يدرس اللهجة التونسية التي تلقى إقبالا لدى كثير من الفرنسيين والفرنسيات من موا ليد تونس شأنها شأن اللهجات المغربية والجزائرية. كان رجلا في غاية الدماثة حاضر النكتة سريع البديهة متزوجا من فرنسية ولديه ابنة وحيدة. كان أحد الأساتذة الفرنسيين من أهل العربية أطلق عليه اسماً عرفناه به ولم نسأل عن اسم آخر، كان يسميه «حجة الخيل» الذي تحرف في نطق الفرنسيين إلى «كجة» ولم أعرف له اسماً أخر طوال سنتين.
كان عندما عرفته قد انفصل عن زوجته المدرسة التي تعيش معها ابنتهما ولما استكملت أوراقي وكانت تفصلنا عن بدء العام الدراسي أسابيع ثلاثة أنهيت فيها ارتباطاتي بالبيت والمدرسة في مرسيليا وودعت هاتفيا بعض من كان لي بهم ارتباط معرفة ولقاء. حملت حقيبة ملابسي وبعض كتبي وبعض الأدوات الضرورية وتركت ما لم أستطع حمله في البيت وسلمت مفاتيحه لمكتب دلني عليه صاحب البيت في مكالمة وداعية.
وصلت إلى مدينة إكس في الصباح على أمل إيجاد سكن في مبنى قريب من الجامعة مخصص للأساتذة وهو مؤلف من غرفة كبيرة فيها سرير مزدوج وحمام ودورة مياه. ولما وصلت أخبروني أن من غادروا السكن لم يسلموا مساكنهم وأن لديهم فرصة الأسابيع القادمة لفعل ذلك. لم أدر ما العمل؟ وضعت أمتعتي في مكتب الاستقبال. وطفقت أسأل عن سكن قريب بانتظار تسليم مساكن الأساتذة.
كانت الاقتراحات متباينة بين وجود فنادق قريبة لكن أجرتها تفوق قدرتي المالية حينذاك وكان من حسن الطالع الالتقاء في الجامعة مع الصديق السوري الذي سبق الحديث عنه (بطرس) ومعه موظف في مكتبة الجامعة فعرفه بي وأنني قادم من مرسيليا للعمل في الجامعة في كلية اللغات فرحب بي ودعانا بطرس إلى مقهى الجامعة، وجرى الحديث عن موضوعات شتى ولما علم «جون» بالأمر قال بلهجة المرحب إنه يسكن في مزرعة قريبة يملكها، وفيها بيت كبير، وأولاده ذهبوا إلى باريس وهو منفصل عن زوجته ولديه سيارة يقطع المسافة إلى الجامعة يوميا وعرض علي أن أقيم معه بانتظار شغور السكن الجامعي، فرحبت بالفكرة بعد استشارة بطرس الذي كان حديثه عن الرجل رصيد أمان. انتظرنا وانتظر بطرس معي نهاية الدوام ثم ذهبنا بعد ذلك لوضع الأمتعة في سيارة جون الكبيرة كسيارات المزارعين كان المنزل الريفي على بعد 40 دقيقة من الجامعة على طراز المساكن الريفية ندخل البيت إلى صالون فسيح في صدره موقد ( شومينيه) وفيه مراتب وركن عال فيه جهاز تلفاز وفيديو، وعلى يمين الداخل مقر فيه غرفتان، طلب مني اختيار إحداهما فاخترت.
حملت أمتعتي ورأيت أنها كشقة صغيرة مستقلة بمتطلباتها ساعدني بطرس في حمل الأمتعة وعدنا إلى الصالون وشربنا من ثلاجة كانت في المطبخ القريب إلى المدخل من الجهة اليسرى مع بعض عصير البرتقال البارد.
ولما اطمأن بطرس لاستقراري غادرنا على أمل اللقاء. وفي المساء جلسنا في الصالة نتجاذب أطراف الحديث كان رجلا مثقفا تأصلت فيه الروح الفرنسية التقليدية، كان يحب المعرفة والحديث عن عادات الشعوب ولما جن الليل ذهب إلى المطبخ وأخرج من الثلاجة دجاجة وقال هذا عشاؤنا الليلة أحضرها عادة مع الخضار فقلت: كما تريد، بدأ بتخصيرها ونحن نتحدث في جو من الهدوء والاعتدال الذي يبشر بقدوم الخريف كما قال.
تناولنا طعام العشاء، وتابعنا حديثنا واستمعنا إلى نشرة الأخبار، وكان التعب قد حل بي وأدركني النعاس فأعطاني غطاء خفيفا وغطاء سرير نظيف وألقى تحية المساء وقال: إنه يذهب مبكرا إلى الجامعة تلافيا للزحام فأبديت رغبتي بمرافقته لملاحقة أوراقي.
نمت بعمق آمنا ولم أستيقظ إلا على رائحة القهوة فسارعت لصب بعض الماء على جسدي وارتديت ملابس نظيفة وبعد القهوة غادرنا إلى الجامعة وأوصلني إلى مكتب «كجة» الذي رحب بي وسألني عن أمري فأخبرته فكان في غاية السرور، ولما ضجت الجامعة بموظفيها وببعص الطلبة ذهبنا معا إلى المكاتب الإدارية لمتابعة أمري فأخبروني أن العمل جار وتكون الأوراق جاهزة لتوقيع رئيس الجامعة في منتصف الأسبوع القادم.
عدنا إلى مكتب « كجة» وطلبنا القهوة وجرى الحديث عن الشؤون المشتركة، ولما سألته عن اللقب قال إن أحد أساتذة العربية من الفرنسيين أعجب بغزارة معلوماته عن الخيل العربية وكتبها فسماه حجة الخيل ثم حولها الناطقون بالفرنسية إلى كجة. (والحُجة بمعناها اللغوي تعني البرهان، وكل ما يحتج به عند التخاصم. أما حجة خيلنا العربية فهي شهادة النسب التي تحرر للدلالة على أصل الخيول ومنشأها).
وبينما نحن في حوارنا دخلت سيدة في كامل أناقتها واتزانها فهب صديقي لاستقبالها ورحب بها، وسلمت بدوري وما لبث غير قليل حتى عرف بي وعرفني بها ودار بيننا حديث عن اللغات وعن العربية وعلمت أنها من مواليد تونس وأنها تدرس تلك اللهجة ولها ابنة معيدة في قسم الدراسات الاقتصادية تسكن في مرسيليا غير بعيد عن موقع إقامتي أمضت وقتا ليس بالقصير معنا ولما أرادت الانصراف طلبت من صديقي أن يأتي بي لزيارتهم بعد أن يصل زوجها من باريس في يوم الأربعاء ثم انصرفت. وسألت صديقي بعد انصرافها عن زوجها فقال إنه من كبار مستشاري رئيس الجامعة وهم يقيمون مع ابنتهم قبل انتقالها إلى مرسيليا في فلة على بعد عشرين دقيقة عن الجامعة. وزوجها شاعر وحقوقي محنك. تتالت الأيام بانتظار حلول العام الدراسي واكتملت إجراءات التعيين على الوظيفة ولم يبق إلا توقيع رئيس الجامعة الذي أعلمني صديقي أنه مسافر في إجازة ولن يعود إلا قبل انطلاق العام الدراسي بأيام قليلة. تكدر خاطري من أن أظل معلقا لمدة تبدو لي، كما هو شأن أصحاب الحاجات، طويلة.
انقضت الأيام في صحبة جو بطيئة بانتظار استكمال أمر التحاقي بالجامعة، وكما يقال «صاحب الحاجة أرعن» وقلق على الرغم من تدخل السيدة (بارون) ووعدها بأن تطلب من زوجها التدخل لدى رئيس الجامعة لتسريع إجراءات التوقيع.
حدث ذلك عندما وجّهت لي ولصديقي دعوة لحضور أمسية شعرية لزوجها في أحد المراكز الثقافية وكان سعيدا بحضورنا وأقام المركز بعد الأمسية حفلة شاي على الطريقة الفرنسية وكنت أخبرت جو بأمر الأمسية وإمكانية التأخر في العودة فابتسم وقال: «بدأت مسيرة الألف ميل» وأعطاني مفتاح الباب الخارجي على سبيل الاحتياط. لم يكن الحضور كثيفا، ولكنه نوعي، وقضى الشاعر على المنصة أربعين دقيقة وعشر دقائق للمقدم في بداية الأمسية تعريفا وتنويها.
كان الرحل بارعا في الإلقاء وذا تنغيم يتسلل إلى مكامن الإحساس فاستولى على أسماع الحضور وألبابهم، دل على ذلك تصفيق الإعجاب وكلمات المعلقين، وأذكر أنه كان لي كلمة قلت في ختامها: « إن الشاعر نقلنا في هذه الأمسية من الحبر إلى الذم ومن الشعر إلى الشعور». أترجمها هكذا من الفرنسية لأن عبارة «من الحبر إلى الدم» Sagn de l’ancre au إن ترجمت ترجمة حرفية فإنها لا تتوافق مع البناء الثقافي للغة الفرنسية لذلك كانت العبارة التي قلتها في مداخلتي هي:
Il nous a transportés de l»anecdotique à l»essentiel et de la poésie au sentiment.»
وبعد انتهاء اللقاء أصر السيد بارون على أن نرافقه إلى المنزل فأخبرته بأنني أسكن بعيدا في مزرعة فقال السيارة موجودة وسائقها عندنا يوصلك متى تشاء، ورأيت في ملامح وجه صديقي حضا على الموافقة، فركبنا السيارة ولم نشعر إلا عندما كنا عند مدخل الفلة والحارس يفتح الباب وندلف إلى صالون كبير فيه كل وسائل الراحة من مكيفات وموقد كبير. جلست مع صديقي وانضمت إلينا ابنته التي كانت وصلت للتو من مرسيليا.
حملت لنا مدبرة الفلة الماء البارد والتحق بنا السيد والسيدة بعد حين.
كانت أجواء الصالون مريحة وبدأت الضيافة الفرنسية تقدمها المدبرة لتكون عشاء خفيفا، وطلب السيد مني أن أعيد على مسامعه الجملة التي ختمت بها مداخلتي فدونها وسألني عن هجاء اسمي واحتفظ بالورقة.
قارب الليل على الانتصاف وأبديت الرغبة في الانصراف وأيدني صديقي وانصرفنا يقلنا سائقة الذي أوصل صديقي أولا ثم انطلق نحو منزل جو بعد أن أعطيته العنوان ولما وصلت لم ينصرف حتى فتحت الباب ودخلت بهدوء. ولم يشعر جو بوصولي وأويت إلى فراشي، واستيقظت على صوت جو الذي أعد القهوة مع بعض الكعك الصغير فشربنا القهوة وغادرنا البيت إلى الجامعة. ولنا لقاء.