د.نادية هناوي
على الرغم مما لاقته نظرية التناص من قبول وما حققته من صدى نقدي، فإن ثمة نقادا غربيين اعترضوا أو بالأحرى طوروا مفهوم التناص بمفاهيم أخرى انطلاقا من أن التفاعل بين النصوص ليس متروكا على الغارب، بل هناك محددات معينة ينبغي أخذها بالاعتبار. ذلك أن نظرية التناص لا تؤمن بما هو تاريخي، ولا اهتمام فيها بالمصادر أو المظان التي إليها ينتسب النص وعنها يتفرع، وما من دراسة في التناص إلا وتنكر التفاوت بين النصوص سبقا وأصالة وقرابة، أي أنها ترفض أية تراتبية تاريخية بين النصوص، فيغدو النظام الأدبي غير موجود. وإذا انعدم النظام، فإن فاعلية التقاليد تُنتفى وتصير العملية الإبداعية عبارة عن فاعلية تبادلية لا نهائية قراءةً وكتابةً وبالعكس. وبهذا تغيب كما يقول جراهام آلان الحقيقة التي تقول:( إن المعنى يأتي من وعي المؤلف الفردي ويعد ملكية لذلك الوعي بشكل مجازي على الأقل. وعندما يكتب الكاتب الحديث فإنه يكون دائما مسبقا في عملية القراءة والكتابة من جديد). وهو ما لا تقبله نظريات الإبداع الأخرى لكن حجة دعاة التناص تتمثل في المراهنة على القارئ وفاعليته القرائية بوصفه طرفا من أطراف الإبداع. فجوليا كريسطيفا اجترحت مفاهيم خاصة مثل ايديولوجيم النص والمحتمل الدلالي. أما رولان بارت فقال بموت المؤلف وأحلَّ محله النص المقروء، وأطلق ريفاتير مفهوم النص المفترض/ الهايبوغرام Hypogram على أي نتاج نصي هو غير موجود في النص لأنه نتاج الممارسة الأدبية والسيميائية الماضية. وسعى الناقد هارولد بلوم الى جعل نظريته (قلق التأثر The anxiety of influence) بديلة عن نظرية التناص مع بقاء الهدف نفسه وهو إثبات فكرة أن الشعراء الحداثيين الكبار هم مصدر إبداعهم، وليس هناك إبداع سابق أثّر فيهم أي أن لا سلف شعريا لهم، بل هم الذين يؤثرون في هذا السلف!!. وأفاد في طرح نظريته من تحليلات فرويد للعملية الإبداعية، وعد الإبداع حالة نفسية سلبية يمثلها (القلق) وأن المبدع مؤثر غير متأثر لأنه في حالة قطيعة مع الآباء. وفسّر بلوم هذه القطيعة بـ(عقدة اوديب) ونقل جراهام الان عنه قوله: (أزعم أن الشاعر ليس رجلا يتحدث إلى رجل بقدر ما هو رجل يتمرد ضد رجل ميت (سلف) يتكلم معه وهذا الرجل الميت أكثر حيوية من الشاعر نفسه ولا يجرؤ الشاعر أن ينظر لنفسه كمتأخر وبالتالي لا يقبل أن تكون رؤيته الأولى التي يحكم عليها تأمليا رؤية سلفه أيضا) بهذه القطيعة لا يكونالماضي قويا ويكون الحاضر بالمقابل سلبيا في تفسير ما سماه بلوم (قراءة خاطئة أو ضالة) وبها يمكن للشاعر أن ينتج نصا أصيلا!!. وما نراه هو أن نظرية قلق التأثر لا تختلف عن نظرية التناص للأسباب الآتية:
ـ أنهما تنفيان التراتبية التاريخية بين نص سابق (سلف شعري) ونص لاحق (خلف شعري).
ـ أنهما تعدان الشعراء يكتبون بناءً على إساءة تفسير قصائد الشعراء السابقين.
ـ أن مفهوم بلوم (القراءة الخاطئة أو الضالة) يقابل مفهوم كريسطيفا (السلبية)؛ فالشعراء يستعيدون كتابة النص السابق بطريقة تنفيه أو لا تعترف به (ومن ثم يولد الوهم بأن شعرهم لم يتأثر بقصيدة السلف وليست قراءة ضالة لذلك السلف).
وبغض النظر عن الطريقة التي بها تعامل بلوم مع السلف الشعري، فإن ذلك لا ينفي حقيقة أن هذا السلف هو المؤسس لما ابتكره الخلف وفقا لمهيئات ظرفية معينة ومن خلالها صار اللاحق قادرا على أن يكون هو الباني والمطور لما أبدعه السابق. ولأن للمؤسس حق الريادة، وليس لمن هو لاحق سوى التطوير، تصبح الثقافات المنتمية إلى حضارات عريقة موضع قلق ونفور للثقافات التي هي حديثة وتفتقر إلى العمق التاريخي.
وهذه هي العقدة الثقافية التي تجعل (التناص) و(قلق التأثر) بمثابة منظورين دفاعيين، يحتجان بالقراءة والانفتاح واللانهائية والتعددية، ويتصاديان مع أي تراث أدبي يولِّد شعورا بتلك العقدة.
ولا يقف أمر الدفاع عند حدود النص تفسيرا وتأويلا، بل يتجاوزه إلى الدفاع ضد أي (آخر) لا يتوافق مع المنظومة الثقافية. ومن هنا رفضت النسوية التناص واعترضت على نظرية قلق التأثر لانهما يستبعدان المرأة من ميدان الابتكار ويطمسان كتابات النساء، وينفيان وجود سلف نسوي سابق، تقول نانسي ميلر: (إن علاقة الكاتبة المرأة باللغة والتقاليد الادبية والانتاج الاجتماعي وتلقي النصوص مختلفة تاريخيا عن علاقة الكاتب الرجل بها).
وما تسعى إليه دراسات الأقلمة هو تشخيص سلبيات نظرية التناص مع اخضاع العملية الإبداعية لمنظورات جديدة فيها مكان مهم للسبق والمصدرية والملكية والأصالة، وإلا هل يقبل المؤلفون أن يتنازلوا عن ملكياتهم وتنتهك أسبقياتهم ولا يعترف لهم بالأصالة؟ ومن هو المؤلف الذي يبدع نصه من الفراغ ولا يقيم اعتبارا لاستعارة صيغ وأساليب وأدوات تنسب حقوقها إلى صناع محترفين معلومين أو مجهولين؟
بالطبع لا يمكن للمبدع أن يبتدع نصا وهو خالي الوفاض من أية مرجعية فيها قواعد وتقاليد، كانت قد أسستْ لها نصوصٌ راسخة تمتاز بقدم عناصرها وتكرارية نظامها. وقد يعمل بعد ذلك على تطوير تلك التقاليد وعندها يغدو الابداع ابتكارا يقترن (بمشقة اليد الواهبة جمال الشكل والتكوين واستغراق الفكر في متعة ولادة الكلمات المهملة منذ أجيال، والقوافي التي لم تستعمل منذ ألف عام وكما يقول لو تسي فإن الكاتب المتأمل يرى الحاضر والماضي في رمشة عين ويمد يده فيلمس جميع البحار) رسائل من ثقب السرطان، محمد خضير، ص291.
** **
- العراق