د. شاهر النهاري
ودون الحرج من تعداد السنين، ولكني غادرت الإسكندرية بعد قضاء سبع سنوات فيها متخرجا من جامعتها ببكالوريوس الطب والجراحة، لأكمل بعدها مراحل العمر المتعددة.
خمس وأربعون سنة كانت الفاصل بين تلك الفترة ورحلتي السريعة الأخيرة لها، عود محب لعين حبيبته المفارقة المتأملة الصابرة، ينظر لما حدث لها، ويحاول بين ملامح عينيها أن يستدل عليها تلك الشابة المليحة الحسناء المختلطة الأعراق «بأجدع ناس»، فرعونيتها وإغريقيتها وعروبتها وأعراقها في وسطها.
نعم العودة للماضي متعبة، ليس فقط للذاكرة، تحاول ربط الأحداث ورسم خطوط الأماكن والتعرف على الجديد، وتلمس المشاعر وهي تحكي صامتة وبالصوت الحياني، مغالبة أشواق وغصة وفرحة وندم على قصور التواصل.
اسكندرية كانت بدايات شبابي ومراحل تهذيب مراهقتي، وكم سيكون من الصعب أن أنظر لها بمرئياتي اليوم، أحضنها أو أحاكمها بميزان النقد، وأن أتساءل عن حقيقة بقاء أنفاس المدن، ومهما مرت عليها العصور، ومهما نبعت الذكريات من صخور شطوطها المتلاطمة مع أمواج لحن فيروزي حيث رمانا الهوى، وبمهجة فرحة بمجرد التلاقي على الرملة ورمي المنديل، وبحزن على كل بادرة مرت عليها السنين القاسية، ومسحت كثيرا من ذاكرتها الحية برطوبة الأبيض.
كانت رحلة مركزة مع صديقي محمود مصيلحي، من أبناء اسكندرية، منتج سينمائي يحتوي في مشاعره أضعاف ما يبدي من فخر وهموم، وهو يحاول معي ربط التاريخ بالحاضر وشرح الحدث المثير للمفارقات.
ركبنا القطار من محطة مصر، متجهين إلى محطة سيدي جابر، فكأن المجري ما يزال كما هو مع تغييرات بسيطة.
حقيقة لقد كنت أبحث عن نحت ملامح القديم، وقد كان هو يحاول أن يبهرني بالجديد، من توسعة لشوارع وكباري الكورنيش، وأنا أنتقد ما يتعارض مع عذرية الإسكندرية، بجعلها ملساء الروح، كون رمال الشواطئ والسباحين وصيادي الأسماك من أجمل ما كان يميز بيئة شواطئها، وأنا بغرامي وحنيني القديم لا أجد في الاسفلت حنانا ولا مشاعر.
نهضة المدينة تحتوي تناقضا عجيبا في تناسق العمائر، طولا وقصرا، وجدة، وتقادما، وملوحة، وتهدم، فكأنك في متحف لأنواع المباني لا تتلاقى لا في اللون ولا العمر ولا المتانة.
القديم ما زال يحاول أن يطل نحوي برأسه، ويغمز لي ويسألني هل أتذكره، وقليل منه يحادثني، ويستريح لرؤيتي والبعض يذرف دمعة.
أما الجديد فيظل يدهشني بالنشاز.
فرحة عارمة كانت تدفعني لأكتشف الأكثر، وتخوف وجفوة من أن أعتبرها قد خرجت من ثوبها، ونسيت مشطها وسحرها وعطرها وفنارها وقلعتها، وعراقتها ودلالها وصفاء شواطئها ونقاء أجوائها، والحوار بيننا يستمر متقطعا، والأجوبة قليلة، قد لا تصدق.
ومن بين أكوام الماضي وقفت على بعض ذكرياتي، فهذا البيت المطل على شاطئ جليم، يظل بيتي الذي عشت فيه، وعاصرت شتائه البارد بألحان فريد، وصيفه الأبدع من روايات غرام أفلام سعاد حسني.
التكسي الأصفر ما زال يحاول الاستمرار بمحركاته المختنقة، وأبوابه الراقصة، ودماثة أخلاق السائقين، ممن لا زالوا لا يزايدون على الراكب.
ركبت الترام الأزرق القديم، كوني لا أعرف الجديد، وتجولت في كل محطات اسكندرية لأجدد الذكرى واستفزها، ونزلت في محطة الجامعة ومن ثم محطة الرمل، ودخلت فندق سيسل العريق، الذي وجدته بنفس وجهه القديم الأنيق الخواجة الذي لا يبيع ثوبه الباشواتي.
نسبة التغير كبيرة، وحتى الأغنيات البديعة لحليم ونجاة ووردة وفايزة لم تعد شائعة، بعد أن ضجت السيارات والمقاهي والدكاكين بموسيقى مهرجانات الرزع والخبط، لدرجة أني توقعت أن بليغ قد تبرأ من معظم ألحانه.
بحثت عن بيوت أصدقائي وزملائي في حارات اسكندرية، ووجدت بعضها، وتعجبت من تغير أحوال بعضها بين هدم وبناء وانزواء وتغريب.
بحثت عمن يسكن الديار، والزمن لا يترك الروابط على حالها، فسمعت قصص العجب ورأيت القطط.
صديقي يتأوه حسرة ويقر بأني قد عشت أجمل فترات اسكندرية، وأنه يتمنى لو استمرت بنفس جمالياتها عروسا للبحر الأبيض، وهي تخرج أيقونة إغريقية من مياه السحر الأبيض.
دخلت مقهى ديليس اليوناني المتوارث بين الأجيال، وتناولت جيلاتي الكاساتا، من نفس الدرج القديم، وبنظام أناقة تحترم الزبون.
ذهبت لفندق سانجيوفاني وتناولت الغذاء رز بالخلطة المشهورة عنه بالجمبري والسمك والمكسرات.
ذهبت لمحل حلويات صابر، بحثا عن المشمشية، ولكني للأسف لم أجدها مثل ما كان، ومررت على محلات شارعي صفية وسعد زغلول، وافتقدت كثيرا من المعالم الحميمة، التي عايشت شبابي، ورأيت السينمات الضخمة تتجزأ لأقسام صغيرة، تنافي عظمة تجمعات عريضة كانت تحمل حفلات كبار الفنانين.
بحثت عن أشهر أستديو تصوير، ولم أجده، سألت عن صانع الأحذية بالتفصيل، ووجدت مكانه محل بيع مستلزمات الجوال.
القلعة والمسرح الروماني ومسرح سيد درويش تبقى، والمكتبة الجديدة حكاية تعاني، وشاطئ اسكندرية كاد يمزق شريط ذكرياتي، برحلة بالباص اللندني، على طول الكورنيش مضيفا الكثير من التفاصيل، وخصوصا حينما اقتربت من قصر الملك فاروق بالمنتزه، ورأيت أن السرعة والتحضر قد عملت فيه أعمالها، فيكاد يشتكي لعيني من هدر ماضيه الزاخر.
نصيحة، لا تعد لمدينة بعد عقود، وتنتظر أن تقابلك بنفس فستانها القديم، ولمعة عينيها وحيويتها، ونفس بسمة استقبالها لملامح وجهك، التي لم تعد شابة كالسابق يا عاشق.