د. فهد بن أحمد النغيمش
جاءت الأمثال العربية بمثل جميل في سياقه عميق في معناه، حين أطلقوا على كل من ينقاد لكل متكلم ويعيد نفس كلامه دون تروي بقولهم: (بنت الجبل)، وكما جاء في العقد الفريد: (أن معناه الصدى يجيبك من الجبل، أي هو مع كل متكلم يجيبه بمثل كلامه).
بنت الجبل هو مثلٌ لمن ينقاد لكل متكلم؛ كالصدى يجيب بين الجبال كلّ ذي صوت بمثل كلامه حيث لا تفكير في الكلمةِ التي تُعاد، ولا المعنى الذي يراد، ولا المبدأِ الذي يصاد، ولا الخلقِ الذي يباد. تجده يتبع كل ناعق، ويميل مع كل ريح، منهومًا للَّذَّات، سَلِسَ القياد، كلما سار شخص بشيء سار معه.
عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا».
الإمعة: كما قَالَ اللَّيْث: هُوَ الَّذِي يَقُول لكل أحد أَنا مَعَك، وَقَالَ أَبُو عبيد: أصل الإمعة الرجل لَا رَأْي لَهُ وَلَا عزم فَهُوَ يُتَابع كل أحد عَلَى رَأْيه.
فالإمعة إذاً نفس قابلة للتأثر والتحول مستجيبة للتغير والتبدل، وما أكثرهم اليوم في مجتمعاتنا، للأسف فهناك مثلاً من استحل المحرمات لمجرَّد أن الناس يفعلونها، وهناك من الناس من ركب موجة التقليد بمجرد أن الناس يفعلونها فرأينا قصات لرؤوس لم نعهدها ورأينا رجلاً جلداً ذو لحية ووقار يقتاد كلباً يتمشى به بين الناس وغيرها من الفعال التي قلد الناس فيها غيرهم دون معرفة لمحتواها أو مغزاها، ولعمري أن تلكم هي الأمعة التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، - وفي لفظ - شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، والعاقل الفطن لا يكن إمعةً يميلُ مع الناس حيث مالوا وإنما يكن صاحب مبدأ، مع الحق في كل زمان ومكان وذو استقلالية في الرأي وفي الكلام له كلمته وله رأيه لا يكرر مقولة (معكم فيما ترون) أو (مع الخيل يا شقراء) إلا إذا كان مقتنعاً واثقاً من حسن الرأي وصدق الموقف بالكامل، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لا تَكونن إمّعَة! قالوا: ما الإمّعة؟ قال: يقول أنَا مع الناس إن اهتَدوا اهتَديت، وان ضَلّوا ضَللت).
الإمعة تقليدي، يعشق التبعية، عقليته أحادية عاجزة، ولذا الرجل الحاذق الصادق هو من لا يجعل الآخرين يشكلون حياته، يثق في آرائه واختياراته، ولا يرهن نفسه برضا الآخرين، لا يعيش في عباءة غيره، تجده يحافظ على مسافات صحيحة وسليمة مع الآخرين، ويدرك الفرق التام بين الانقياد الأعمى، والتفكير المنطقي السليم.
وقد يسأل سائل: أليس من الطبيعي أن يتأثر الناس بالناس؟ أليس كل قرار نتخذه هو في النهاية نتيجة تأثرنا بفكرة أو موقف أو سلوك لآخرين؟ ولو كان ذلك محتوما فهل نخالف الناس أم نوافقهم؟ وهذه أسئلة مشروعة صحيحة، لكننا يجب أن نتذكر أن أي فرد يعيش وسط بيئة ومجتمع فمن الطبيعي أن يتأثر ولا ينقاد وترتسم على محياه العديد من صفات مجتمعه الذي يعيش فيه لكن بدون تسليم أو انقياد، وهناك صنف من الناس لا يرغب في الادلاء برأيه حتى لا يصادم أو يمانع وإنما وجوده في الاجتماع أو اللقاء ككرسي دون حراك أو منضدة مطفأ الأنوار، فهم يمرون من الحياة مروراً لا أثر لهم فيها، لا يبنون بيتاً ولا يهدمونه، ولا ينصرون مظلوما ولا يظلمونه، ولا يزرعون زيتوناً ولا يقلعونه، ضيوف على هذه الأرض لا تعرفهم ولا يعرفونها. وهؤلاء حقيقة هم في نظري أنهم لم يقدروا نعمة وجودهم ففضلوا الزوال عليه.