د.محمد سليم
في كتابه «القرن الحادي والعشرون الآسيوي» يصف المفكر السنغافوري «كيشور محبوباني» القرن الحالي على أنه القرن الآسيوي، ويستدل لذلك بالمستجدات المتسارعة الحاصلة في المجالات الاقتصادية والسياسية والعلمية في الوقت المعاصر، حيث إن صعود بعض الدول الآسيوية في هذه المجالات عمل على تفنيد دعوى الخنوع والاستسلام للأنظمة الغربية وطروحاتها التي مُنيت بها دول العالم الثالث، والتي طالما فرضت ذاتها على أقدار الدول الآسيوية والإفريقية، غير أن الحظوظ هذه المرة بدأت تبتسم للبعض من هذه الدول مثل الصين التي أكسبتها قوتها الاقتصادية المركز الأول - وذلك لأول مرة في التاريخ الحديث- من بين الدول الكبرى المصدرة للبضائع والمنتوجات، الأمر الذي أقض مضاجع صنَّاع القرار في بعض الدول الغربية التي رأت في ذلك تحدياً كبيراً لمنظومتها الاقتصادية وخرقاً بادياً لمكانتها العالمية الرائدة، ومن هنا بدأت تخطط لاحتوائها وتطويقها، وإلحاق الضرر بها اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً، غير أن الصين ماضية في سبيلها تشق طريقها لتصل إلى القمة عن طريق إقامة مشاريع تنموية ضخمة، وتطوير بنى تحتية مميزة في وتيرة أسرع، وتدشين مبادرات الممرات الاقتصادية عبر العالم، وكسب تحالفات إستراتيجية مع الدول المهمة، وهي إستراتيجية ذكية ومتزنة ومرنة حدت بالصين للإبحار في هدوء للوصول إلى سواحل تعج بمكاسب اقتصادية وتجارية وسياسية هائلة.
والقصة هي أن الغرب عادة ما سعى في العصر الحديث إلى فرض هيمنته الاقتصادية والسياسية وتمرير خطاباته وطروحاته، بيد أننا نرى أخيراً أن التنين الصيني يستيقظ من سباته العميق منذ قرون طويلة ماضية، فطفق يلفظ أنفاسه في قارات العالم المختلفة، ويصعد إلى السماء فيطير في الفضاء أو يهبط للأرض فيغوص في الماء ويعوم إلى جزر نائية عائمة في مياه المحيطات الهادئة والصاخبة، في رمز قوي إلى واقع يراه العالم ماثلاً أمام عينيه، ومثلما تفعله كل القوى الصاعدة، فإن الصين تدير علاقاتها السياسية والتجارية مع الدول الآسيوية والإفريقية وأمريكا اللاتينية بدافع التعاطف الإنساني معها وبدعوى مقاسمة قصة نجاحها وتجاربها التنموية، وذلك عن طريق ضخ استثمارات ضخمة تتجاوز تريليون دولار في إحياء طريق الحرير أو مبادرة الطريق والحزام الضخمة، كما تمد الدول الضعيفة اقتصادياً عن طريق إقراضها الديون في مليارات الدولارات ما يسهم في تبني مشروعات تنموية في تلك الدول تخرجها من آفات الفقر والبؤس والشقاء.
وبالطبع مثّل صعود الصين المبهر وشموخ مكانتها المتعاظمة أملاً وتفاؤلاً كبيرين بالنسبة للدول النامية، حيث رأت فيها دولة ترفع قضاياها في المحافل الدولية، إلى جانب تقديمها مساعدات اقتصادية وتقنية لها، وبناء مؤسسات ومنظمات دولية تتبنى قضايا دول عالم الجنوب مثل منظمة شنغهاي للتعاون، والبريكس بلس وغيرهما من المنظمات التي غدت متحدثة بلسان دول عالم الجنوب. هذا، وتزامن تعاظم الثقل الصيني السياسي والاقتصادي مع التغيّر الملحوظ في الخطاب العالمي إزاء قضايا وطروحات عدها الغرب جوهرية بصرف النظر عن جوهريتها بالنسبة لدول عالم الجنوب من عدمها، فالحديث عن كفاءة النظام الديموقراطي وقدرته وحده على بناء دولة حديثة متطورة لم يعد له ذلك البريق الذي كان العالم ينبهر أمامه، وبالقدر الذي تضاعفت فيه مكانة الصين الدولية، فبنفس القدر يراها العالم تلعب أدوارها المنوطة بها، فهي تمثّل دور الوسيط الذي يجمع بين الأطراف المتنازعة مثلما تفعله في الآونة الأخيرة مع التكتلات والأطراف الفلسطينية العديدة لتوحدها وتشمل كلمتها حتى يأتي الحديث عن إقامة دولة فلسطينية قويا، ومع تزايد تبنيها قضايا عالم الجنوب، فإننا لا نتمالك إلا أن نشعر بتغير ملموس في الخطاب العالمي بتنا نراه ونعيشه.
** **
- باحث وأكاديمي هندي مقيم في نيو دلهي