عبدالوهاب الفايز
الموضوع الذي نطرحه اليوم امتداد للنقاش السابق، واليوم بيدنا قضية ساخنة: كيف نستثمر الحجم الكبير من نفايات البناء والهدم؟ (الضائع من عدم التدوير لمخلفات البناء تقدر بحدود 25 مليار ريال سنوياً).
الواقع يقول أن لدينا ثروة اقتصادية مهدرة أو منسية، ولا أحد يعرف عنها! وإن فاتنا إدراكها، فلعل لا يفوتنا استدراكها.
والمجال الذي تقصده بالتحديد هو (مخلفات البناء والهدم غالبا تتكون من الخرسانة والأسفلت والمعادن والجبس والخشب والطوب والزجاج والبلاستيك). يبلغ حجم مخلفات البناء في المملكة أكثر من 20 مليون طن سنوياً، وهي نسبة كبيرة جدا وتشكل المكوّن الأكبر من مجموع النفايات. وهذه تولد منتجات مربحة نتيجة تطور تقنية الكسارات المتنقلة والمحمولة، مع آلات الفرز التي أوجدت نظامًا متكاملًا للسحق والفرز الخشن والمتوسط والدقيق لنفايات البناء باستخدام جهاز واحد فقط يجعلها قابلة للاستخدام.
وزارة البلديات تتحمل تكاليف عالية لإزالة المخلفات مجهولة المصدر، ففي عام 2021 أزالت بحدود 120 ألف طن مخلفات من الأراضي الفضاء، وأعتقد أنها حالياً تجاوزت هذا بكثير! والتعامل السليم مع هذا الجانب في الاقتصاد الدائري يحوله من التكلفة إلى الربح، مع تعظيم أثره الاقتصادي الواسع. ولكن حتى نصل بهذا القطاع إلى مستويات الأرباح التي نتطلع إليها وتعكس الواقع، ونتمكن من إدارة الاستثمار بكفاءة، أمامنا تحديات تحتاج المعالجة.
وكما ذكرنا سابقا، لن نحقق قصص النجاح الاستثمارية بسرعة دون اللجوء إلى الادارة المركزية التي تجمع الشركاء الاستراتيجيين للقطاع على طاولة واحدة، وهذا المسار هو الذي حقق لنا النجاح في عدة قطاعات.
الإدارة المركزية الكاملة لصناعة التدوير سوف ينتج عنها أثر إيجابي كبير ممتد في النشاط لاقتصادي، وفي سلامة البيئة، وله الأثر الإيجابي على إيرادات الدولة، ويتيح توسيع سوق العمل للمواطنين. وله أيضا الأثر على البعد الإنساني للمدن (أنسنة المدن) الذي نسعى إليه.
النجاح في هذا القطاع سوف يحمي مدننا من الصورة غير الحضارية لتراكم النفايات والمخلفات بأنواعها عندما تكون ظاهرة للعين ويراها الناس في الشوارع الرئيسية وفي الميادين.. بالذات الزوار!
اليوم على مداخل المدن، بالذات العاصمة، نرى مناظر مخيفة ومؤذية للنفايات المرمية على ضفاف الشوارع، وفي بطون الأحياء. مدينة الرياض تنتج ما يقارب 100 ألف طن يومياً. وهذا البحر المخيف الذي تكاد تغرق به أحياء شمال الرياض يحتاج التحرك السريع قبل أن نصل إلى الأحداث والمناسبات العالمية القادمة.
مع تطور الإقبال على التواصل الاجتماعي واتضاح عوائدها المالية الكبرى التي يجنيها مشاهير ووكالات الإعلان من المحتوى الذي يستجلب التفاعل رأينا كيف اتجه المشاهير أيام أولمبياد باريس إلى جميع أحياء مدينة النور يبحثون عن المثير الجاذب للتفاعل حيث أخرجوا للعالم مشاهدات للمخلفات في الشوارع، وتجولوا بين المشردين في الشوارع، وكانت مشاهد سلبية صادمة مسيئة.
في لقاء مع الأستاذ خالد شريف نائب محافظ صندوق التنمية الوطني، في ديوانيه (الجمعية السعودية لكتاب الرأي) الأسبوع الماضي، اتضح لنا مما طرحه في الحوار الموسع أهمية الدور التنموي الكبير للصندوق. ومن أهم ما أشار إليه هو (تركيز الصندوق)، كجهة مشرعة ومنظمة، على معرفة (الأثر الاقتصادي) المتحقق لكل المشاريع التنموية الممولة من الصناديق الحكومية. وإدراك الحكومة والجهات السيادية الاستثمارية مثل صندوق التنمية الوطني لأهمية الأثر الاقتصادي للاستثمارات الحكومية هو أمر حيوي للاقتصاد الوطني.
وهذا التوجه الإستراتيجي للصندوق نتطلع أن نراه يتحقق في كل المجالات التي تقع ضمن أولويات الاقتصاد الدائري.
ومن المجالات المهمة التي دخلها بقوة صندوق الاستثمارات العامة هو صناعة التدوير عبر إنشاء (شركة سرك) المملوكة للحكومة لتكون الذراع الاستثماري الرئيسي للدولة. وتحت مجموعة سرك عدة شركات منها (شركة اكام) المتخصصة في تدوير مخلفات الهدم والبناء.
الآن الشركة تعالج ما يقارب 45 ألف طن يوميا في مواقع التخلص البيئي الخاصة بها (المرادم)، بنسبة 45 % من المواد الناتجة بشكل يومي. والشركة لديها فائض إنتاجي يستوعب تدوير ما يقارب 100 ألف طن يوميا من مخلفات البناء.
وهذه الشركة المملوكة للدولة بالكامل تقدم فرصة لاستيعاب النمو الكبير في مخلفات الهدم والبناء بالذات في المرحلة التي تمر فيها بلادنا حيث طفرة الإنشاء والبناء تعد الأوسع في الشرق الأوسط، فهذه (فرصة تاريخية) لبناء صناعة متطورة في الاقتصاد الدائري؛ لذا نحتاج دخول ذراع وطني يقود وينظم المنافسة، ويساهم في مواجهة التحديات العديدة للصناعة. لدينا تحديات تتطلب تفاعل وإدراك الأجهزة الحكومية ومبادرتها الإيجابية النابعة من روح المسؤولية والرغبة في المشاركة الفعالة، أي أن تكون جزءا من الحل وليس جزءا من المشكلة.
الأجهزة الحكومية نتمنى ان تدقق في الصورة لتعرف حجم الأموال المدورة في قطاع مخلفات الهدم والبناء. وثمة أسئلة تحتاج الإجابة. هل هناك من يعرف كم نسبة الفاقد من الضرائب والرسوم الحكومية والزكاة وبرامج المسؤولية الاجتماعية وغيرها من الموارد المالية في قطاع التدوير؟ هل هناك معلومات كافية ودقيقة عن مقدار التدفقات النقدية في هذا القطاع؟ طبقا للعارفين به، وفي جزء منه، هناك أموال كبيرة يجنيها سائقو شاحنات نقل حاويات المخلفات، بالذات الذين يرمونها داخل الأحياء وفي أطراف المدن، وغالبا يعملون تحت جناح التستر، ويتعاملون بالنقد!
القريبون من القطاع يتحدثون عن واقع مزعج، بالذات في البعد عن الممارسات العلمية والفنية التي تقرها وتطالب بها التشريعات والتنظيمات الحكومية الحاكمة للبيئة واقتصادياتها. الملاحظ استمرار ممارسات (التستر التجاري) في أغلب سلسلة الامداد. وهناك مشاكل داخل المرادم المخصصة للتخلص من مخلفات الهدم والبناء تدار من قبل مشغلين تستقبل ما يقارب 32.5 ألف طن بشكل يومي بنسبة 32.5 % من إجمالي الكميات الناتجة بالمدينة. المؤسف أن ما يقارب 22.5 ألف طن يومياً من المخلفات يتم التخلص منها بشكل بالرمي العشوائي. نحن نخشى أن يتم في هذه المرادم التخلص من النفايات البترولية الخطرة، والنفايات الطبية.
المصلحة الوطنية العليا تتطلب ضبط القطاع وتشجيع الممارسات البيئية السليمة. الآن هناك مخلفات هدم وبناء تنتج من بعض المشاريع الكبرى يتم إعادة تدويرها واستثمارها داخل المشروع. وتبلغ الكميات التقريبية حوالي 25 ألف طن يومياً. هذه الممارسات السليمة داخل المشاريع الكبرى يمكن توسيعها في المشاريع الصغيرة، فتقنية التدوير أوجدت الكسارات والمعامل المتنقلة التي توضع في المواقع وتباشر التدوير. وهذه توفر آلاف الرحلات اليومية لشاحنات نقل الحاويات التي توجد مشكلة كبرى لمدينة الرياض. فالطريقة الحالية أقرب إلى البدائية في الممارسة. فالحاويات غالبا تجمع كل شيء، ومخلفات البناء تتناثر منها في الشوارع، وهذه تزيد عبء تنظيف المدينة وتجعل البلديات في موقع المسألة والمحاسبة من الناس.
ربما تقولون: الأفضل لقطاع البلديات أن يخرج من هذا الصداع اليومي لإدارة مخلفات الهدم والبناء حتى يتفرغ للأمور الحيوية لإدارة متطلبات الأنسنة وجودة الحياة في المدن.
أمامنا فرصة تاريخية ذهبية لإنشاء شركة وطنية كبرى متخصصة بالتدوير تكون مشاركة بين صندوق الاستثمارات العامة والشركات المرخصة العاملة في القطاع، على ان يُطرح ثلثها مساهمة عامة. وأيضا لعلنا - بشكل سريع - نرى تنفيذ توصية مركز إدارة النفايات (موان) بضرورة إنشاء (لجنة تنسيقية) من عدة جهات لمتابعة وتنفيذ الحل الشامل لإدارة نفايات البناء والهدم.
بلادنا في العام 2035، تستهدف أن تكون 95 % من النفايات تصل المرادم. الآن يصل 5 % تقريباً. كيف نحقق هذا المستهدف؟ من يدير هذا الملف الصعب؟