منال الحصيني
ليلة البارحة ثمة شعور غريب يكتم أنفاسي لم أستطع تجاهله، لكنه على ما أظن تراكمات السنين باتت في عقلي طيلة الأربعة عقود ونيفاً، حينها أعلنت استسلام جسدي، فقلعة الشعور المتهالكة لقِدمها لم أستطع يوماً أن أُصلح أبوابها كي أحميها من الانهيار.
فقلعةٌ أثرية دون رعاية كأطلال يُمرّ بجانبها فتُذكرُ ويشار إليها بالبنان وتُنعت بفعل كان.
تمددت كعادتي فوق سجادة الحرير الممزوجة بألوان الحياة المتناسقة بدأتُ بتمرير إصبعي فوق نقوشها وأفكاري في علوٍ وانحدار ما بين تأمل وتفكر، وكثيراً من التدبر، سقطت دمعة أحسبها والله حسيبها أنها أهل للتفكر في ملكوت الخالق ودِقة بديع صنعه، فوق خيوط الحرير لِتُغيّر زراق النسيج الفاتح لزُرقة داكنة كما لو أني أغرق في ظلمات البحر، لولا أنني تذكرت مناجاة ذي النون.
ما زالت العبرات عالقة، حينها بدأت غصة العبرات تتلاشى.
امتدت نظراتي بتأمل صامت لتلك السجادة حول ماذا كان يدور في ذهن ناسجها! وكيف كانت مشاعره حينها حتى يجعل منها قطعة جمالية تسُرُ الناظرين، لربما كان هو الآخر استلقى فوق حقول التوت ليرقُب يرقات القز في خيال واسع، ما كان منه إلا أن يضع خيوطها فوق عمود الصباغة لمزج الألوان عبر ثقوب مضختها.
سرح خيالي حينها برحلةٍ عبر الزمن للوراء كثيراً حيث (قصر الخُلد)
وجمال نفوش الحرير المحبوكة في أرجائه، فقد خُيّل إلي أريكة الخلافة وبهو مجلس هارون الرشيد..
وكم من الأحداث السارة والمفجعة شهدتها خيوط الحرير بصمت تام،
وكم من الجواري والنساء تجملت بها، وكم من قصص الغدر التي جعلت حبال القيود تُمزق رِقة خيوطها.
ماذا عن حرير «ماردة» و»هيلانة» الذي كان حليفهما الحظ فمن جواري إلى أُمهات لأبناء خليفة.
وماذا عن (الخيزران) التي متى ما وقف أميرُ ببابها ضربت عُنقه، وكأن حرير قصرها يشهد بمرور أقدام ابنها الهادي حين أملى عليها قوله (أمالكِ مِغزلُ يُشغِلك) خوفاً منه على قوة سلطتها، ولكني أجزم أن مِلاءتها الحريرية كانت شاهد عيان على تدبير مكيدةٍ قتل ابنها.
وحده الحرير كان حاضراً في جريمة بشرية بدأت بعقوق وانتهت بسفك دم، أي أُم تجرؤ على ذلك؟!
أبت دموعي إلا أن تسقط مرة أخرى فربما قصة مأساوية كتلك استباحت العبرات عُذراً كي تجد مخرجاً للتنفيس، ولكن كيف لأمرأةٍ مثلها أن يستجيب لها التاريخ ويتحول على يديها دراما حيةٌ لا تموت ولا تنسى ظلت أحداثها عبر العصور ما بين مجد ومأساة.
يبدو أنني تعمقت كثيراً لأهرب من وجعي فوجدته لا شيء، ولكن وقولاً واحداً للتأمل قوة خارقة تمنحك فتح المغاليق لتخرج من ضيق إلى سعة ومن محدودية إلى شمولية.
لكيلا أتعمق أكثر فأكثر سأطفق بيدي مسحاً على سجادة الحرير خشية التبرير.