د. تنيضب الفايدي
الخير كلُّ الخير في الوجه (أي: مدينة الوجه)، وكان الماء قديماً لاسيّما أثناء رحلات الحج يقلّ، وخاصةً في المدن الساحلية مثل: (الحوراء، أملج، ينبع البحر، ضباء، والمويلح ... إلخ) وقد انتشر بيت من الشعر يقول:
إذا قلَّ ماءُ الوجهِ قلَّ حياؤُهُ
ولا خيرَ في وجْه إذا قلَّ ماؤهُ
ولكن هذه المدن وغيرها حالياً أصبحت مصادر للماء، وقد زُرتُ الوجه أصيلاً قبل أكثر من عقدين من الزمن ضمن عشرات الزيارات لمدن ومآثر الوطن الحبيب، علماً بأنني لم أطلع على من كتب عن تلك المدن في المصادر القديمة أو الحديثة بوفرة وعمق المعلومات بمثل ما كتبت عنها شخصياً - والحمد لله -، وما أجمل الأصيل على شاطئ الوجه، حيث تحسُّ بأن الهواء النقيّ لم يدخل أي رئةٍ قبل رئتيك، كما تشعر بأن الأمواج تتسابق للترحيب بك وتدعوك إلى التعمّق أكثر، لكنني لا أُجيد فنّ العوم، وبحر الوجه أشدّ نقاءً وصفاءً من غيره تماماً كقلوب أهل الوجه، والوجه مدينة ساحلية جميلة تقع على الشاطئ مباشرة، وللشاطئ ذراعٌ تحتضن الوجه؛ لذا تزيدها زرقةُ البحر جمالاً، والوجه عاصمة لمحافظة إدارية تحمل اسمها وتتبع لمنطقة تبوك، يقع إلى الجنوب من محافظة ضباء على ساحل البحر الأحمر، وله تاريخٌ عميق ذو حضارات متعددة، وآثارها باقية وبارزة على جبالها منذ آلاف السنين حتى وقتنا الحالي، ويطلق اسم الوجه في تلك الفترة على الوادي الذي تقع فيه قلعة الزريب، وعلى المرسى الذي يقع في مصب هذا الوادي. وهي مدينة ساحلية جميلة تقع على الشاطئ مباشرةً، بل ويحتضنها جزء من البحر الصافي الجميل، لذا تزيدها زرقة البحر جمالاً، كما أنها تتميز بمناخ معتدل طوال العام.
التسمية:
قد تكون تسميتها بالوجه جاءت من وجه الحجاز بمعنى أنه أول نقطة يراها وينزل بها القادم براً وبحراً من إفريقيا والمغرب، وتشير بعض المصادر إلى أن اسم الوجه مشتقّ من المواجهة والمقصود بها مواجهة ركب الحجيج في طريق عودته من الحجاز إلى مصر، كما تأتي الوجه بمعنى الماء العذب الصيب وتأتي بمعنى منهل الوادي ومكان وجود المياه فيه.
تاريخ الوجه:
أشارت بعض الدراسات التاريخية إلى أن منطقة ساحل الوجه شهدت في القرن الثالث قبل الميلاد إنشاء بواكير الموانئ التي استخدمت لأغراض عسكرية واقتصادية، وفي عهد الرومان عند ظهورهم كقوة عسكرية وسياسية في حوض البحر الأحمر ارتبط تاريخهم بساحل الوجه عن طريق حملة عسكرية، وعلى إثر ذلك برز ميناء (لوكي كومة Lieuk Kome) على ساحل الوجه خلال الربع الأخير من القرن الأول قبل الميلاد، كما كانت الوجه ميناءً مهماً خلال العصور الإسلامية حيث أسهمت في خدمة النقل البحري، سواء كان نقل البضائع أو الركاب. ويعتقد أنها كانت الميناء البحري للحجر (مدائن صالح). وتنوعت العمارة التقليدية بالمنطقة وتعددت أنماطها حسب المواد المتوافرة من البيئة المحيطة، وتميزت عمارة المدن الساحلية، منها حقل وضباء والوجه وأملج باستخدام الحجر الجيري والطين والنورة مواد أساسية للبناء. الآثار الإسلامية لـ: د. غبان (ص28).
وللوجه تاريخٌ قديم إذ كانت الوجه ميناء قديم تمّ استخدامه في عهد العثمانيين، ويمر بها خط الساحل الدولي الذي يربط شمال المملكة بجنوبها ويساهم في مرور الحجاج من الدول التي تحدّ السعودية من الشمال كسوريا والأردن وكذلك حجاج البر من مصر وشمال إفريقيا وتركيا وغيرها الأمر الذي ساهم في ازدهار المنطقة اقتصادياً وعمرانياً، وتضم الوجه أيضاً المدينة القديمة وبها قلعة يعود تاريخها إلى عهد العثمانيين، وبها قلعة الزريب المشهورة والتي كانت محطة للحجاج ونقطة للعناصر الأمنية في بداية العهد السعودي، وقلعة الوجه التي بنيت في العهد العثماني والمنازل القديمة التي لازال جزء كبير منها باقياً حتى الآن.
الوجه ومحطات الحج:
كانت الوجه إحدى محطات طريق الحاج المصري قديماً ومرسىً حسناً على طريق الملاحة بين جدة والقلزم. ذكر الحربي في كتابه المناسك ضمن طريق الساحل حيث يقول: «من أيلة إلى عينونا، ومن عينونا إلى المصلى، ومن المصلّى إلى النبك، ومن النبك إلى ظُبّة، ومن ظبة إلى المرة، ومن المرة إلى عونيد، ومن عونيد إلى الوجه، ومن الوجه إلى منخوس، ومن المنخوس إلى الحوراء، ومن الحوراء إلى قصيبة، ومن قصيبة إلى البحرة، ومن البحرة إلى ينبع, ومن ينبع إلى الجار، ومن الجار إلى المدينة».
وقد تميز بوجود عدد من المراسي الصغيرة على مقربة منه، ترفأ إليها السفن عند الضرورة، مثل مرسى الرس، ومرسى زاعم، ومرسى جزيرة ريغا المقابلة تماماً لشاطئ الوجه، ومرسى جزيرة مردونة، وبهذه الجزيرة كانت تؤخذ البشارة من المسافرين بالبحر، تيمناً بقرب وصولهم إلى الأراضي المقدسة. وبالقرب من قلعة الزريب يوجد منهلٌ للماء وكان هذا المنهل أحد المحطات الرئيسة على طريق الحج في العصر العباسي والفاطمي، وبعد عام 667 هـ/ 1268م أصبح مصدراً مضموناً للماء.
ويلاحظ أن درب الحج المصري الذي يمرّ على الوجه يحمل أسماء لها صفات آدمية وحيوانية، حيث إن الجوانب الآدمية مثل: الوجه، والعيون، والحنك، والنهدين، كما تحمل صفات حيوانية مثل: عرقوب البغلة، وظهر الحمار، وهي أمكنة موجودة على الطريق. وقد جاء ذكر الوجه في الأبيات عند بيان محطات درب الحج المصري:
ومن بعدها جاءت إلى الوجهِ وارتوتْ
وسارتْ إلى أكرا وطاب هواهَا
وقد تعددت أوصاف الشعر في الوجه فقال الشاعر:
أي سادَةً في الوَجْه فُزْت بقرْبهمْ
ولمْ أدْر أنَّ القربَ يؤذَن بالبُعْد
سَرَيْتمْ إلى أكْرى فشرَّدتمُ الكَرَى
وخلّفْتُمو في الوَجْه دمْعيْ على خدِّي
وقال آخر:
أقوْل ووادي الوجْه سالَ من الحَيَا
وقدْ طابَ فيْه للحجيجِ مقام
على ذلك الوجْه المليحِ تحيّةٌ
مباركةٌ من ربِّنَا وسلام
وقال آخر:
تذكَّرْت بالحوراء وقد عمَّها الحيا
مُحيَّا حبيبٍ أحْوَرٍ عزّ قربُه
فقلت وقدْ شاهدتُّ في الوجه حُسْنَه
رَعَى الله ذاكَ الوَجْه وجْهاً أحبُّه
وقال آخر:
ولما رأيت الوجه سالَ من الحَيَا
وقدْ طابَ فيْه للحجيج مَقَام
وعَايَنْتُ ركْبَ الحجِّ حلَّ بسفْحه
وقدْ ضُربَتْ في جانبَيْه خيامُ
ومدَّ إلى الغَيث الهطُوْل أكُفَّهُ
فجَاد عليْه بالعَطَاءِ غَمَامُ
فقُلْتُ على الوجْه المليْح تحيَّةٌ
من الله ما سحَّ الرُّبا وسلامُ
وقال شاعر آخر:
أتيْتُ إلى الحجاز فقُلْتُ لمَّا
تبدَّى وجْهُهُ لي وارْتَوَيتُ
وكمْ في الأرضِ من وجهِ مليحٍ
ولكنْ مثلُ وجْهكَ ما رأيْتُ
وللشاعر عند عدم الماء به:
أقولُ وقد جئنا إلى الوجهِ جمْعُنَا
عِطَاشٌ وكلٌّ حارَ فِيه رجَاؤُهُ
إذا قلَّ ماءُ الوجهِ قلَّ حياؤُهُ
ولا خيرَ في وجْه إذا قلَّ ماؤهُ
واشتهر الوجه بقلة الماء قديماً ويتناقل الشعراء بيتاً من الشعر يقول:
ولمَّا وجدْنا الوجْهَ عندَ ورُودِهِ
خلِيّا من الماء الفُراتِ فِناؤه
زممتُ مطيِّي ثم قلتُ: ترحَّلُوا
فلا خيرَ في وجه إذا قلّ ماؤهُ
والخير في الوجه إن شاء الله فقد زاد به الماء حيث محطات التحلية، لذا فقد زاد جماله:
إذا زاد ماء «الوجه» زاد جماله
ويلقاك بالوجه البشوش رجاله
فكل وجوه الناس في «الوجه فرحة»
وانعم بـ«الوجه» قد تحسن حاله
فلا عاد لـ«الوجه» الجميل جفافه
إذا شاء رب العرش جل جلاله
الوجه والسياحة:
لا أجمل من الوجه؛ لأنه يجمع الكثير من المحاسن! وتشتهر الوجه بشوارعها وبأسماء حاراتها القديمة، وعرفت الوجه الصهاريج وهي من أشهر آثار الوجه ويعتبر ميناء الوجه من أكثر موانئ البحر الأحمر جمالاً مما يجعله عامل جذب سياحي خاصة لهواة الغطس واكتشاف الأعماق والباحثين عن صيد الأسماك ولاسيّما جراد البحر (الاستاكوزا) الذي تتميز به محافظة الوجه عن غيرها، علماً بأنها تؤدي دوراً هاماً؟! وفي الوجه العديد من الشواطئ الساحرة، ومن آثارها قلعة الزريب التي بنيت عام 1026هـ في عهد السلطان أحمد الأول على طريق الحج المصري لتكون حصناً لحماية قوافل الحجاج، والمواد التي يختزنونها كمؤونة أثناء عودتهم من الأراضي المقدسة، وتعدّ الآن من أهم الآثار الباقية في الجزء الشمالي الغربي من المملكة وهي مبنية من الحجر تتميز بطرازها المعماري لها أربعة أبراج ويقع مدخلها في الجزء الغربي وفيها بركتان لتخزين الماء وهي من سلسلة القلاع لحماية الحجيج، وسوق تراثية تقع السوق القديمة في الجزء الشمالي للميناء أسفل الهضبة التي تقع عليها محافظة الوجه الحديثة, وقد شهدت السوق القديمة حركة تجارية ضخمة حيث كان يمر عليها الحجاج القادمون من المناطق المجاورة وهو ما يفسر ازدهار الوجه طوال قرون عديدة دون غيرها من المدن الأخرى، كما اشتهرت الوجه بطيبة أهلها وعلوّ هممهم، وتسنّم بعضهم مراكز قيادية في الوطن الحبيب.
وتعدّ الوجه من أهم أماكن السياحة في منطقة تبوك، حيث يحتضنها البحر بأمواجه وشواطئه الحالمة وتمتعها بالعديد من الجزر الواقعة على مقربة من الساحل, ويعتبر ميناء الوجه من أكثر أجزاء البحر الأحمر صفاءً وجمالاً مما يجعله عامل جذب سياحي خاصة لهواة الغطس واكتشاف الأعماق والباحثين عن صيد الأسماك، وتشمل الوجه عدداً من المعالم السياحية أشهرها ميناء الوجه، وتتميز الوجه بعدد من المقومات السياحية، أهمها: المعالم الأثرية والتاريخية، المناخ المعتدل، الموقع الجغرافي المتوسط، الشواطئ الرملية والجزر، الصحاري الجميلة، والجبال العالية، الحدائق والمنتزهات.
وتمتاز محافظة الوجه بالإضافة إلى شواطئها الخلابة وجزرها الجميلة بمبانيها التراثية وهي شامخة تحكي قصة الوجه عبر التاريخ مُحافظةً على نسيجها العمراني الذي قلّ ما يوجد في بعض المدن القديمة. هذا بالإضافة إلى احتواء المحافظة على المواقع والقصور والقلاع التاريخية والأثرية والتراثية المميزة. ومنها: منتزه زاعم السياحي، الكورنيش، الصهاريج، المنطقة التاريخية، قصر الإمارة التاريخي، قلعة السويق، السوق القديم، قلعة الزريب، والآبار السلطانية.
والوجه الآن ضمن منطقة المشاريع العملاقة على شاطئ البحر الأحمر مثل مشروع البحر الأحمر والمشروع العملاق (نيوم).