د.محمد سليم
أورد الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله - في كتابه الصادر عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر «أمريكا والسعودية: حملة إعلامية أم مواجهة سياسية»، بيتاً للشاعر العربي المتنبي يقول فيه:
إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبول
وعلّق عليه الدكتور غازي القصيبي قائلا: «تنبه المتنبي منذ أكثر من ألف سنة إلى العلاقة المفصلية بين السياسة والإعلام «السيف» أو السياسة، لا يمكن فصله عن «البوقات والطبول»، أي الإعلام»، وبالطبع يبدو من شعر المتنبي كأنما أتى كلامه استشرافاً للمستقبل، حيث غدت القوى العالمية المهيمنة والصاعدة تولي اهتماماً متزايداً بتبني وإدارة منظومتها السياسية وإعداد وتجهيز جيوشها لغرض تأمين مصالحها، إلى جانب سعيها إقامة منصات إعلامية يعمل بها الأشخاص المجندون يدافعون عنها، ويتحدثون عن إنجازاتها ويذودون عن حياضها، وبالتالي أضحت شريحة من المجندين تعمل في مجال رسم ووضع خطط وبرامج استراتيجية دعماً للسياسات الحكومية، وعلى الجانب الآخر، صارت شريحة معينة أخرى تؤدي وظائف الأبواق والضرب على الطبول جندت ووظفت لتعمل في حقل الإعلام؛ لتبث عن الكيانات والحكومات فعالها وتحبذها في أعين الناس فتذيعها أمام الملأ.
ونظراً لأهمية الإعلام المتعاظمة، فقد استثمرت فيه دول العالم بشكل موسع حتى تتمكن من بث نظرياتها ورؤاها، وتفنيد ودحض رؤى غيرها، ما يؤهلها لأن تبني الرأي العالمي العام تجاه دول وحكومات إزاء قضايا تظنها تتنافى مع منظومتها السياسية والاقتصادية وحتى تلك التي تتعارض مع مكونات قيمها ومقوماتها.
وفي الماضي القريب نرى أمثلة واضحة لذلك، فما حدث في مسألة العراق بخصوص كذبة «أسلحة الدمار الشامل»؛ تذرعت بها الدول الغربية لزعزعة استقرار العراق والمنطقة مستخدمة أدواتها الإعلامية لنشر وترويج هذه الكذبة، وبالمثل يمكننا أن نرى بصماتها وصورها جلية في قضية ليبيا وبقية الدول العربية إبان ثورات الربيع العربي التي سرعان ما أن تبدلت إلى الخريف العربي، وبالتالي جلبت الخراب والدمار لعدة دول عربية، وهي لا تفتأ تعاني أوضاعاً مأساوية، وفي كل هذه القضايا وغيرها رأينا الإعلام الغربي يتحدث بلغة واحدة، وفي نبرة واحدة، ويصدر عن منزع واحد، ما يرمز إلى سياسات مدروسة تبناها الساسة في الغرب، وخطوات موحدة خطاها الصحفيون الغربيون كما لو كانوا يكتبون ويصدرون وفقاً لما قد تملي عليهم دولهم اللهم إلا القليل منهم الذين أتت مواقفهم مغايرة للتيار الجارف غير أنهم لم يستطيعوا الصمود أمامه، ولذلك أخفقت مجهوداتهم الشحيحة، فغدت أصواتهم مثل صيحة في واد أو نفخة في رماد.
وعودة إلى المآسي الفلسطينية الجارية، والمجازر الاستعمارية التي مورست بحق الفلسطينيين منذ عقود فائتة، وتناول الإعلام الغربي لها فإننا لا نجده يعطي ذلك الزخم وتلك التغطية الإيجابية والقوية التي يعطيها للقضايا الأخرى مثل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، يردد الإعلام الغربي خطاباته وطروحاته حيال غياب قيم العدل والشفافية في الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا، ويأمل من بقية دول العالم أن تقبل طروحاته هذه متناسياً عمق ومتانة العلاقات الثنائية القائمة بين روسيا والدول الأخرى غير الغربية.
ومن الجدير بالذكر هنا ما قاله وزير الخارجية الهندي جاي شانكر عندما طرح أحد الإعلاميين الغرب السؤال عليه بصدد الحرب بين روسيا وأوكرانيا وعدم انتقاد الهند للهجوم الروسي عليها، فقال مقولته الشهيرة: «لقد حان الوقت لأن تتجاوز أوروبا عقليتها التي تفترض أنّ مشكلات أوروبا هي مشكلات العالم، ولكنّ مشكلات العالم ليست مشكلة أوروبا». وهنا يلمح الوزير الهندي إلى سعي الغرب تجاه جعل قضاياها مركزية، وتهميش قضايا بقية الدول، فما يحدث في فلسطين يومياً يشكل كارثة إنسانية غير أن ذلك لم يحرك ساكناً بالنسبة للإعلام الغربي والعالم الغربي اللهم إلا ما يرد عن البعض منه تحلة للقسم لا يهش ولا ينش.
** **
- (باحث وأكاديمي هندي)