د. محمد بن إبراهيم الملحم
حينما استعرضت في مقالتي السابقة التوجه لتقليل محتوى المناهج في بعض الدول الطموحة وذلك من أجل التوجه للتركيز على بناء المهارات وتكوين التفكير النقدي ودعم تأسيس مبادئ التعلم مدى الحياة، فقد وضحت أهمية هذا التوجه وعدم وجود تأييد علمي لتوجهات بعض الأنظمة في الاهتمام بالجانب الكمي لتغطية موضوعات كثيرة كوسيلة للوصول إلى طالب متميز، وقد استعرضت أهم مشكلات المناهج الطويلة والكم الكبير، وأبرزها ما يعرفه كل منا حول ما يعانيه المعلمون من عدم كفاية وقت الحصص التقليدي لتقديم تعليم قائم على التشاركية والمناقشة والاستكشاف وإنما يقدم لهم الوقت المتاح فقط فرصة تقديم المحتوى بالشرح الإلقائي مع قليل من الطرق الحديثة بما يمكن توفيره من الوقت. وأشير اليوم إلى أن هذا النوع من التدريس التقليدي يكون فيه التركيز على تجهيز الطالب للاختبار بدلا من التعلم العميق للمفاهيم والمهارات مع الأسف وهو ما أدى إلى تأخر التعليم في كثير من النظم التعليمية حول العالم.
واستعرض اليوم فوائد تقليل المنهج وأهمها ما يلي: أولا تعميق الفهم من خلال التركيز، ذلك أن إغراق الطلاب بمجموعة واسعة من المواضيع ينتج فهما سطحيا بينما يعطي المنهج الأقصر فرصة للمعلمين للتركيز في التدريس وبالتالي استكشاف الموضوع بشكل أفضل، الأمر الذي يعزز الفضول الفكري والتقدير الأعمق للمادة. وثانيا يسهل التعليم المركز تذكر المعلومة، وهو الركيزة الأساس للتطبيق العملي في سيناريوهات الحياة مما يعطي للمادة قيمة حياتية فيختفي ذلك السؤال المعتاد من الطلاب: لماذا ندرس هذه المادة؟ وثالثا تعزيز التفكير النقدي من خلال التعلم القائم على السؤال البحثي حيث تخفيض المناهج يفتح المجال لدمج منهجيات التفكير النقدي في التدريس القائم على الاستفسار ويوفر كذلك بيئات تعليمية تفاعلية يمكن فيها تطبيق التعلم التشاركي بسلاسة وهو نموذج يتمحور فيه التعلم حول الطالب بما يشعل فضوله ويعزز مشاركته وتتحول الفصول إلى بؤر نابضة بالتبادل الفكري.
رابعا تعزيز مسارات التعلم الفردية، فعند النظر إلى مبدأ الفروق الفردية فإن ذلك يتيح للمعلمين أيضا تعديل التعلم ليتناسب مع الاحتياجات الفردية لكل طالب حسب إمكاناته وهو أمر لا يمكن للمعلم أن يقوم به في ظل الكم الكبير للمناهج الضاغطة، خامسا تخفيف الضغوط وتحسين الصحة النفسية، فبدون شك كلنا سنقدر قيمة إلغاء عنصر سلبي في المناهج الطويلة وهو الإجهاد والاحتراق الذي يصيب الطالب نتيجة للحشو المفرط للمعلومات. وأخيرا تحسين دقة التقييم، فالتقييم الدقيق يتطلب كثيرا من الوقت سواء في التصميم والبناء أو في التطبيق (في ظل شح الحصص الدراسية) أو في التصحيح، وهو ما يتجنب المعلمون فعله ويكتفون بأقل قدر ممكن من التقييم، كما أنه يكون في غالب الأحوال تقييما شكليا، يطبقونه ليحققوا به المتطلبات الرسمية وليس لتعزيز التعلم، ولذلك فإن اختباراتهم قليلة وغالبا لا يناقشون نتائجها مع الطلاب، والمناقشة هي ما يحقق فعلا فائدة التقييم وتغذيته الراجعة، ولذلك لا يضيف التقييم لمصلحة الطالب التعليمية شيئا بل هو ثقل وعبء على كاهله فقط، والسبب الأكبر في هذه الممارسة السلبية تماما هو عدم توفر الوقت الكافي لأفضل الممارسات التي يتطلبها تقويم الطالب المستمر والذي يعزز تعلم الطالب ونموه العلمي. وعند تخفيض المناهج فإن المعلمين سيتمكنون من تصميم تقييمات تحقق أهداف التعلم كما أنهم سيفهمون مستويات طلابهم بشكل أكثر دقة مما يمكنهم من تحسين التدريس والارتقاء به سواء في مجاله العام أو في مستوى تفريد التعليم وتوجيه النشاط التدريسي لكل طالب أو لكل فئة طلاب من مستوى تعلم معين (حسب ما وضحته نتائج التقويم الدقيق).
الجدير بالذكر أن قمة نتائج كل هذه المزايا أن يكتسب الطلاب مهارات التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات وهما الركنان الأساسيان للمحافظة على قيمة الطالب الفكرية وتمكينه من اتخاذ القرارات السليمة في حياته بسهولة وثقة، كما أنه سيعزز لديهم مبدأ التعلم مدى الحياة وهو مفهوم تنامت قيمته مؤخراً وأصبح ضرورة من ضرورات حياتنا التقنية المتجددة اليوم.