أ.د.صالح معيض الغامدي
أشرت ذات مرة إلى أنه يحسن بكاتب السيرة الذاتية ألا يهتم كثيرا بإيراد كل شيء في سيرته، لأنه في الواقع لن يستطيع ذلك ولو حرص، ولأن ذلك الحرص كثيرا ما يؤدي إلى تسطيح السيرة الذاتية حقيقة، واقترحت أن يركز كاتب السيرة على مجموعة من الثيمات أو الموضوعات الرئيسة في تجربته الحياتية ويوفيها حقها، مثل ثيمة الطفولة والتحول والمعاناة والإنجازات.. إلى آخره.
والحقيقة أن عددا لا بأس من الكتاب قد أدركوا أهمية ذلك فكتبوا سيرهم وفق ثيمات رئيسة أساسية، بل إن بعضهم اقتصر في سيرته على ثيمة واحدة مثل ما نجد في سيرتي أمل التميمي «في مشلح أبي وجدي: طفولتي: الذاكرة الطاغية» وحمد البليهد «عشيات الحمى: سيرة طفولة»، إذ اكتفيا بالكتابة في هاتين السيرتين على ثيمة الطفولة في حياتهما.
ومن الكتب ذات الطبيعة السير الذاتية التي اطلعت عليها مؤخرا ووجدتها تركز على ثيمة رئيسة واحدة هي ثيمة القراءة كتابان لكاتبين يكتبان عن ملامح من سيرتهما الذاتية من منظور تجربتهما الحياتية القرائية للكتب وارتباطها بالكتابة بالضرورة، أحدهما كتاب للأستاذ حسين با فقيه، عنوانه «حياة واحدة لا تكفي: ذكريات أدبية وفصول ثقافية عن القراءة والكتب»، والآخر للدكتور عبد الجبار الرفاعي، وعنوانه «مسرات القراءة ومخاض الكتابة: فصل من سيرة كاتب».
والمصطلح الغربي الذي يطلق على هذا النوع من السير الذاتية أو المذكرات التي تحتفي بالقراءة وتجعلها ثيمة أساسية، بل وحيدة أحيانا لها، هو «bibliomemoir» الذي يمكن ترجمته بـ»السيرة الذاتية أو المذكرات الكتابية»، أي السيرة الذاتية التي تتمحور حول دور قراءة الكتب في تشكيل مسار حياة كتابها وتجاربهم الحياتية المختلفة.
وبقراءة هذا النوع من الكتب السير الذاتية يستطيع القارئ وبخاصة القارئ الفضولي أن يقف على الكتب التي قرأها هؤلاء الكتاب وعلى الدور المهم الذي لعبته في تشكيل حياتهم منذ الطفولة والصبا، وربما ساعدت قراءة هذا النوع الكتب على معرفة مصادر تشكل حياة الكاتب الفكرية والنفسية والأدبية... إلى آخره، الأمر الذي يوفر لنا نحن القراء العاديين وللدارسين أيضا معلومات وفيرة حول هذه الشخصيات التي تكتب عن الكتب وتهتم بها وبشؤونها وبتلقيها وبدراستها، وأثر ذلك كله على نتاجهم الفكري والأدبي الآخر. ومن جوانب الجذب في هذه السير الذاتية الكتابية أنها تشبع فضولنا في معرفة الكتب التي قرأها أو اقتناها هؤلاء الكتاب وتدخلنا إلى مكتباتهم الخاصة وهم قد لا يدركون ذلك.
وهذه السير الكتابية بقدر ما تطلعنا على حياة كتابها تطلعنا كذلك على سير كتاب الكتب التي يقومون هم بقراءتها ومراجعتها وتحليلها ودراستها، فهي سير ذاتية من جانب وسير غيرية من جانب آخر.
وينبغي ألا نقلل من أهمية الكتب المقروءة والمكتوبة في تشكيل شخصية كتابها وحياتهم، فكثير من السير الذاتية تولى ثيمة القراءة أهمية تتفاوت في مقدارها للحديث عن الكتب ودورها في تشكيل حياة كتابها ومسيرتهم الفكرية والأدبية وغيرهما، ولكنهم لم يفردوها بكتاب مستقل كما فعل با فقيه والرفاعي، وإنما جاءت ثيمة من ضمن ثيمات سيرهم الذاتية، ويمكن التمثيل لهذا النوع بكتاب الدكتور عبد الله الغذامي «الخطيئة والتكفير». فقد كان لهذا الكتاب أثره البالغ في سيرته ومسيرته الذاتية، كما رواها في البرنامج السيرذاتي «مخيال». وللكتاب حضور قوي في سيرة معجب الزهراني الذاتية «سيرة الوقت». ويطول بنا الحديث إن نحن رمنا تتبع أثر الكتاب والقراءة في تشكيل كثير من السير الذاتية العربية عموما والسعودية منها على وجه الخصوص.
وعلى الرغم من أن السيرة الذاتية الكتابية في اعتقادنا قادرة على التعريف بكاتبها وسرد جوانب عديدة من حياته، إلا أنها بطبيعة الحال لا تصلح سيرة ذاتية لمن حظه في اقتناء الكتب وقراءتها والاهتمام بشؤونها قليل، فهذا النوع من السير الذاتية مخصوص لمن افتتن بالكتب قراءة وتأليفا ومتابعة وربما عملا واشتغالا. وهذا أمر مفهوم فالناس يختلفون في طريقة عيشهم وعملهم، وهذا بطبيعة الحال ينعكس على طبيعة السيرة الذاتية التي يكتبونها، فالمعلم غالبا ما يسرد حياته مقترنة بالتعليم وشؤونه وأثر ذلك على حياته، وكذلك يفعل الطبيب، والعسكري، والرياضي… إلى آخره. ولو كنت مرشحا شخصا لكتابة سيرة ذاتية كتابية بارعة لرشحت الأستاذ هاشم جحدلي، إن لم يكن قد كتبها فعلا.
وأخيرا أود الإشارة إلى أنني أتوقع أن الأدب العربي الحديث عموما وأدب السيرة الذاتية منه خاصة، قد شهد ظهور بعض السير الذاتية الكتابية الأخرى التي لم اطلع عليها، ربما لأنني لم أقم بالبحث الكافي عنها، ولعل أحد الباحثين الشباب يقوم بالبحث في هذا الموضوع المهم اللطيف الماتع.