أ.د. محمد خير محمود البقاعي
كنت إبان إقامتي في مرسيليا قد أنجزت تحقيق كتاب لعلامة من علماء الرواية والحديث وموسوعة من موسوعات الأسانيد والرواية هو الحافظ أبو طاهر السلفي، صدرُ الدِّين أحمد بن مُحمَّد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سِلَفة (بكسر السين وفتح اللام) الأصْبَهاني (478-579هـ = 1085-1180م) صاحب المعاجم السائرة «معجم مشيخة أصبهان» و«معجم شيوخ بغداد» و«معجم السفر» نزيل الإسكندرية التي استقر فيها منذ سنة 546 هـ، إلى أن توفي. واهتم به المستشرق الفرنسي المشهور جورج فاجدا Georges Vajda
1908-1981م، فخصه بمقالة ترجمتها ونشرتها مجلة مجمع اللغة العربي الأردني تحدث فيها عن كتابه (الوجيز في ذكر المجاز والمجيز) وفصل القول فيه عن الإجازة العلمية في التراث العربي فأعجبني الكتاب وحصلت على نسخة باريس منه واستعنت بمقالة فاجدا فنسخته إبان إقامتي في مرسيليا واستكملته عندما وصلت إلى جامعة إكس مستعيناً بمكتبة القسم وبمكتبة صديق فرنسي من أعلام الاستشراق في الدراسات العربية والإسلامية في فرنسا، وكان من حسن طالعي أنه التحق بجامعة إكس في عام 1989م وهو العام الذي وصلت فيه إليها. إنه البروفيسور كلود جيليو Claude Gilliot وهو من ألمع المستشرقين الفرنسيين وأحد الآباء الدومنيكان، وهو أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة إكس أن بروفانس-مارسيليا بفرنسا منذ عام 1989 وحتى تقاعده في عام 2006، ولد جيليو في السادس من يناير عام 1940، وقد حصل على دكتوراه الدولة في سبتمبر عام (1982) من جامعة السوربون 111Paris-، وكانت أطروحته بعنوان: «جوانب المخيال الإسلامي الجمعي من خلال تفسير الطبري»، التي أشرف عليه فيها أستاذه: محمد أركون (1928- 2010م)، وقد عمل باحثًا في معهد الأبحاث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي (IREMAM)، ومشرفًا ومحررًا لعددٍ من المجلات البحثية المتخصصة كمجلة أرابيكا (Arabica)، وله إنتاج غزير وعدد كبير من الكتابات حول تاريخ القرآن والتفسير، وأشرف على العديد من الرسائل الأكاديمية والأعمال العلمية. كنت في أيام ترددي على كلية اللغات ومكتبتها العربية بانتظار قرار التحاقي بالجامعة ألتقي ببعض الأساتذة، وفي يوم من الأيام دخلت المكتبة ورأيت رجلا في العقد الخامس من العمر يقف أمام المجلات المعروضة على رفوف خشبية مصقولة يتصفح المجلات العلمية المعروضة بلغات شتى فألقيت السلام فالتفت إلي ورد التحية ببرود الغربيين عموماً وتابع تصفحه وهنا تدخلت السيدة المسؤولة عن المكتبة وكانت تعرف أنني أنتظر بداية العام للانضمام إلى قسم الدراسات العربية موجهة الكلام لي: السيد الذي سلمت عليه هو البروفيسور كلود جيليو، وهو قادم من جامعة السوربون فقلت: أعرفه بالاسم ويسعدني لقاؤه فقال وكيف تعرف اسمي؟ فقلت: قرأت لكم بحثاً أصيلاً ووافياً في المجلة الآسيوية بعنوان: «التكوين الثقافي للطبري» فأعجبني وأنجزت ترجمته وأنا بانتظار الاستقرار مع بداية العام الدراسي لأراجعه وأنوي نشره في مجلة «المورد» العراقية اذائعة الصيت في الدراسات التراثية المحكمة فانصرف عما بيده وبادرني بأسئلة عن اسمي ودراستي وعن وجودي في إكس فأجبت عن تساؤلاته فكان في غاية السرور، وأخبرني أنه اشترى بيتا في مركز المدينة التراثي المرصوف بالحجارة السوداء ولا تدخله السيارات إلا نادرا ونقل إليه مكتبته الضخمة من باريس وأنه يعيش وحيداً في ذلك المنزل الذي تشغل المكتبة مساحة واسعة منه. كنت في غاية السرور من اللقاء وشكرت لأمينة المكتبة مبادرتها وانصرف مودعا بعبارة سيكون لنا وقت طويل للحوار والنقاش في مجالات شتى فأبديت اهتمامي وسروري ثم انصرف وتابعت الحديث مع السيدة التي أخبرتني أنه من الآباء الدومينيكان الذين هم في الأصل رهبان كاثوليك سلكوا مسار الرهبنة (التخلي عن الزواج والمتع الدنيوية والانصراف إلى الروحانيات). وفي الأسبوع الثالث التقيت به مرة ثانية وتحدثنا عن أمور شتى ورأيت الرجل مطلعاً على كتب التراث في مجال التفسير والحديث وقد جمع في مكتبته كل ما وصلت إليه يده من الكتب في مجالات دراساته من تفاسير وتراجم وسير فضلاً عن كتب الاستشراق الفرنسي والألماني والإنجليزي بلغاتها الأصلية التي يتقنها فضلا عن اللاتينية والسريانية والعربية. سألني عن مكان إقامتي فأخبرته عن مكان إقامتي بانتظار بداية العام الدراسي للحصول على مكان في سكن الجامعة، وأبدى إعجابه بمبادرة جو وقال إن في بيته متسعاً عندما يكون علي التأخر في المدينة لأمر ما فشكرت له مبادرته الطيبة ثم ألحّ على أن نتناول طعام الغداء معاً في مطعم يتردد عليه وسط المدينة ودلني في الطريق إلى مركز المدينة على مكتبة عربية تبيع الكتب العربية التراثية من مطبوعات الشرق والغرب العربي، صاحبها مغربي عارف بالكتب وطبعاتها. ولما وصلنا إلى المطعم واتخذنا طاولة اعتاد الجلوس عليها، وكان في المطعم نفر من الفرنسيين والعرب ومزيج من اللغات والأشكال والألوان من الجنسين.
حدثته عن اهتمامي بأبي طاهر السلفي وكتابه الوجيز ومقالة فاجدا التي ترجمتها وأنتظر صدورها في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني. فسر، وقال إن مكتبته مفتوحة في أي وقت لإنجاز الكتاب واقترح أن نشرب الشاي في البيت لأرى مكتبته فانتقلنا إلى البيت في مبنى قديم مجدد في الطابق الثالث. تجولت في المكتبة وفرحت لوجود كل ما يحتاجه الباحث والمحقق في التراث. وكان كتاب الوجيز يحتاج بعض التراجم لرجال الأسانيد وتخريجا لبعض النصوص والأخبار التي لم يسعفني الوقت للبحث عنها إبان إقامتي في مرسيليا. ومن الطريف أننا بحثنا عن ترجمة السلفي في دائرة المعارف الإسلامية فلم نجد له ترجمة فاقترح أن يكتب لهم لإعداد ترجمة له. كنت أخبرت جو عن تأخري وإمكانية قضاء الليلة في المدينة، وهو ما حصل.
لم أنم حتى ساعة متأخرة وأنا أتنقل من كتاب إلى آخر عندما استيقظت في الصباح متأخرا بعض التأخير على غير العادة فوجدت مستضيفي صاحيا بانتظاري لقهوة الصباح مع بعض المخبوزات التي جلبها طازجة من مخبز قريب. جاء بالقهوة وحملت المخبوزات إلى طاولة في وسط المكتبة وقضينا بعض الوقت في الحديث وأخبرني أنه لا ينوي مغادرة البيت لأنه بصدد إنجاز مقالة هي مراجعة لأحد كتب الباحث الألماني جوزيف فان إس (Josef van Ess,1934-2021) لمجلة أرابيكا.
قلت: إن علي الذهاب للقاء جو في الجامعة لأن أمتعتي عنده خرجت من البيت.
وتوجهت إلى الجامعة وهناك قابلت جو الذي سارع إلى إخباري أن رئيس الجامعة قد وصل وأن علي إخبار السيد بارون فاتصلت به وأخبرته بعودة الرئيس فأخبرني أنه يستعد للذهاب إلى الجامعة وسيكلمه بالأمر شكرت له اهتمامه. وقضيت اليوم في الجامعة، وفي المساء عدنا إلى بيت جو حاملين معنا مستلزمات العشاء ووجدنا أحد أبنائه القادم من عمله في باريس، ففرح جو وبدأ بتحضير العشاء، ولما تم الأمر جلسنا معا واستمرت الجلسة طويلا كعادة الفرنسيين على مائدة الطعام، واستمرت الجلسة والحوار حتى ساعة متأخرة، أوى كل منا بعد ذلك إلى فراشه واستيقظت على رائحة القهوة فاحتسيناها وجهز كل منا نفسه للانطلاق إلى الجامعة، وصلنا إليها وألقينا تحية الصباح على من لقيناه وجلسنا في مكتب جو وفي حوالي العاشرة صباحا رن جرس الهاتف في المكتب وكان على الجانب الآخر السيد بارون الذي زف إلي نبأ توقيع العقد وأن علي المباشرة عند وصول العقد موقعا إلى إدارة الكلية، فانتظرت مدة ذهبت بعدها فوجدت الأمر جاهزاً فوقعت المباشرة وذهبت إلى سكن الجامعة القريب وانتظرت بعض الوقت للدخول إلى مكتب مديرة الإسكان وبيدي صورة من العقد وأخرى من المباشرة فابتسمت وقالت ما ترجمته: إنه من حسن طالعك أن أحد الأساتذة تخلى عن سكنه صباح اليوم، والعاملون بصدد تنظيفه وسيكون بعد ساعة جاهزا ويمكنك المرور وتوقيع العقد والاستلام قبل نهاية الدوام. كنت في غاية السعادة وفرح جو لفرحي وقال ممازحا: ارتحت من مشوارك مع العجوز ومخالطته ضحكنا وقلت إنني لن أنسى معروفه وها أنذا اليوم أسجل موقفه النبيل بكل امتنان.
أخبرت جيلو بالأمر فشعرت بالفرح لتمام الأمر في نبرته خصوصاً أن السكن لم يكن بعيدا عن مركز المدينة، حيث منزله. في المساء غادرت مع جو وجهزت أمتعتي وفي صباح اليوم الثاني وصلنا إلى السكن وفتحت الباب وأودعنا الأمتعة ثم اتجهنا إلى الكلية وتلقيت تهنئة الذين عرفتهم في القسم والكلية ومن أمينة المكتبة والأستاذ « كجة» على وجه الخصوص.
ثم اتصلت من مكتب جو بالسيد بارون وأخبرته بتمام الأمر فهنأني وقال ممازحا: لن يمر الأمر بهذه السهولة نريد دعوة تجمع الذين أسهموا في تمام الأمر في منزلي وسنتفق على الموعد. فأجبت مبديا السرور من الاقتراح وشاركته السيدة بارون في التهنئة وأكدت طلب زوجها فاتفقنا على أن نحدد الوقت لاحقاً.
مر اليوم سريعا وحل المساء فذهبت إلى سكني وأخرجت ملابسي وكتبي واستلقيت بعدها على سريري فأدركني النوم سريعا ولم أستيقظ إلا في صباح اليوم التالي وليس في البيت قهوة ولا ما يسد جوعي فاغتسلت وغيرت ملابسي وخرجت فوجدت نفسي وجهاً لوجه مع جارة ألقت تحية الصباح فرددت التحية بأحسن منها، كانت سيدة من جزر الكاب فير (الرأس الأخضر) تدرس اللغة الفرنسية، وأنت تشعر بذلك وهي تحدثك بلغتها العالية ولهجتها الصافية ومخارج حروفها المتقنة.
ودعتها واتجهت إلى مقهى قريب تناولت فيه إفطاري وقهوتي واتجهت إلى الكلية، ولقيت رئيس القسم موجوداً فسلمت فرحب بي وأخبرني أنني سأقتسم المكتب مع أستاذة هي منسقة برامج العربية في القسم التي ستضع جدولي. كانت سيدة كما اكتشفت ذلك مع الوقت ذات مزاج متقلب يشكو الأساتذة من ذلك، ولكنها مخلصة بعملها وذات قدرات تربوية ومنهجية مفيدة لمن يمارسون مهنة تدريس العربية للناطقين بغيرها. أخبرتني بعد أن اطلعت على سيرتي أنها ستسند إلي تدريس طلبة دبلوم الدراسات الاقتصادية المختصين بالعالم العربي فضلا عن حلقات البحث في مادة المكتبة العربية مساعدا للدكتورة أودبير وأستكمل ما تبقى من النصاب في تولي ما يكلفني به السيد جيليو في الدراسات الإسلامية. فرحت بالجدول لأنه جاء ملبيا رغبتي في التعاون مع أستاذين أعرفهما وبدا لي أن التفاهم ممكن مع السيدة إيلين وهو اسم السيدة المسؤولة عن الدبلومات التخصصية.
بقيت أيام على بدء العام الدراسي عزمت على تحضير المادة التي سأدرسها واستكمال التعرف على بقية أساتذة القسم والعودة إلى إنجاز كتاب السلفي ومقالة الطبري واستكمال المرحلة النهائية من جمع المصادر والمراجع للبدء في كتابة الرسالة.
استقرت الأمور ودخلت مرحلة أخرى من رحلة التحصيل.
عرفت مع ترددي على الكلية موظفا كانت هيئته تبعث على شعور مباشر بالاحترام يقتسم مكتباً كبيراً مع عدد من الموظفين والموظفات من المختصين بالتعامل مع الكمبيوترات التي كانت في أول هجمتها في التحول الالكتروني فأخبرني أنه يسكن غير بعيد عن الجامعة وأنه يمارس كرة القدم بعد عصر كل يوم سبت مع مجموعة من الأساتذة والطلاب والموظفين. فرحت وقد مضى زمن لم أمارس كرة القدم. كان الطقس مناسبا والمشاركون يكفون لتشكيل فريقين، جرى الأمر بسهولة ويسر بعد وقت من الإحماء كما يقول العارفون بمصطلحات الرياضة.
حمي الوطيس شيئا فشيئا واتخذ اللقاء طابعا تنافسيا، وفي غمرة الحماسة أرسل أحد المدافعين من فرقتنا كرة سريعة جريت وراءها بكل سرعة فاصطدمت بحارس مرمى الفرقة المقابلة وكان ضخم الجثة لم أستطع تلافي الاصطدام به لأسقط وعندما حاولت تلافي السقوط على وجهي فقدمت بحركة لا إرادية يدي فسقطت على المرفقين وسمعت فرقعة عظامها وأصبحت ملقيا على الأرض الرملية أتلوى من الألم مكباً على وجهي والتف الجمع حولي ورفعني السيد الذي كان وراء مشاركتي في مثل هذا اللقاء فحملني مع شخص أخر إلى سيارته بعد أن حمل ثيابي ومتاعي إلى السيارة وانطلق بي إلى المستشفى الرئيس في المدينة وهو مشفى حكومي وكان من حسن الطالع أنني كنت قد أنجزت معاملة التأمين الاجتماعي قبل يومين لأن أول ما سئلت عنه بعد وضعي على السرير رقم التأمين وكانت البطاقة المدونة عليها كل معلوماتي في محفظتي فناولها صديقي للممرضة التي مضت لإنجاز تسجيل المعلومات. ولم يمض وقت طويل حتى ذهبت بي الممرضة إلى قاعة التصوير الإشعاعيّ وأنا أتألم، ولما عادت بي إلى الغرفة أعطتني بعض مسكنات الألم التي خففت شيئاً من آلامي. كنت وصديقي ننتظر نتائج التصوير التي لم تتأخر معلنة انكسار عظم المرفقين وضرورة إجراء عملية ترميم والتدعيم بدعامات معدنية تنتزع لاحقاً بعد أن تلتحم العظام. ولنا لقاء.