د.عبد العزيز سليمان العبودي
القبول في علم النفس هو اعتراف الشخص وموافقته على إنهاء موقف ما دون محاولة تغييره أو الاحتجاج عليه. وهذا يحدث على المستويين الفردي والمجتمعي. وهو عنصر أساسي في علاج التقبل والالتزام (ACT) والعلاج السلوكي المعرفي (CBT). لذلك يقتضي القبول الاتصال بنشاط التجارب الداخلية النفسية (العواطف، والأحاسيس، والمحفزات، وذكريات الماضي، وغيرها من الأحداث الخاصة) مباشرة، بشكل كامل، ودون ردة فعل. المقصود هنا هو قبول الأشياء التي لا يمكن للمرء تغييرها، وقبول مهمة التغيير للأشياء التي يمكن تغييرها. ويعتبر القبول، بكل تعقيداته وتناقضاته، موضوعًا مهما في الدراسات النفسية. ونظرية القبول والرفض تعتمد على ثلاثة عناصر رئيسية وهي: الشخصية، والتأقلم، والنظام الاجتماعي والثقافي1.
وكل عنصر من هذه العناصر يؤدي دوراً بشكل مستقل ومتداخل مع العناصر الأخرى. والاعتراف بقيمة قبول الذات بحالاتها المختلفة والمجتمع له جذور فلسفية ودينية تعود إلى آلاف السنين. وقد شهدت العقود الماضية زيادة في الاهتمام بمبدأ القبول في العلاج النفسي2، كما يتضح من زيادة التدخلات العلاجية القائمة على القبول. حيث يتم التركيز على جوانب تخص قبول الفرد للأمراض المستعصية كالسرطان3 وغسيل الكلى وغيرها، وكذلك قبول مهمة التخلص من الإدمان. أو قبول التعافي بعد مشكلة اجتماعية مرت على المريض وأثرت على صحته النفسية، كفقد عزيز أو حادثة اعتداء أو غير ذلك.
تتناول الأعمال الأدبية هذا المفهوم من زوايا متعددة، مستكشفة تطوره وتأثيره على الشخصيات والمجتمع. فيتم القبول أو الرفض، من خلال اكتشاف الذات والهوية. وقد تعرضت الأعمال الأدبية لموضوع القبول، من خلال مجموعة متنوعة من الأعمال الروائية، فيتم معالجة مسألة القبول الذاتي والاجتماعي بأساليب متعددة.
على سبيل المثال، رواية «الحارس في حقل الشوفان» للكاتب الأمريكي جيروم سالينجر الذي يروي قصة هولدن كولفيلد. حيث تبدأ القصة عندما يتلقى هولدن خبر طرده من مدرسته الداخلية، ويقرر مغادرتها قبل أن يُعلِم والديه، فينتقل إلى نيويورك حيث يقضي بضعة أيام في محاولة للبحث عن معنى لحياته والتعامل مع مشاعره المتضاربة.
خلال هذه الفترة، يتفاعل مع مجموعة من الشخصيات التي تعكس زيف ونفاق المجتمع الذي يرفضه، مما يزيد من شعوره بالعزلة والرفض. بالإضافة إلى ذلك، يعاني من ضغوط توقعات أسرته والمجتمع، مما يعقد علاقته بأسرته ويزيد من شعوره بالرفض. لينتهي به الأمر في مؤسسة نفسية. لتنتهي الرواية بهولدن وهو يتحدث عن خططه المستقبلية، لكنه يظل غير متأكد من كيفية مواجهة الحياة بعد خروجه من المؤسسة. ليترك القارئ مع شعور بعدم اليقين حول مستقبل هولدن.
على العكس من ذلك ففي رواية «المراهق» للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، يجد الفتى أركادي نفسه محاصرًا بين آماله وأحلامه المتعلقة بالثروة والحب والتحضر، وصراعاته الفكرية مع والده والبيئة المحيطة به. فيسعى للتمرد على الظروف الحياتية ويتطلع للثراء الفاحش وبناء علاقات مع طبقة الأغنياء والأمراء. الرواية تستكشف مشاعر الحب والكره، والاعتراف والإنكار. فيكشف الكاتب عن خبايا النفس البشرية ويسلط الضوء على التناقضات والأفكار التي لا تُرى. حيث يصل البطل إلى مرحلة من النضج والتصالح مع نفسه ومع والده. بعد سلسلة من الصراعات الداخلية والخارجية، يدرك أن السعي وراء الثروة والسلطة ليس هو السبيل لتحقيق السعادة الحقيقية. بدلاً من ذلك، يبدأ في تقدير العلاقات الإنسانية والقيم الأخلاقية.
أما رواية «السيد إبراهيم وأزهار القرآن» للفرنسي إريك إيمانويل شميت فيتناول العلاقة بين السيد إبراهيم، بائع البقالة المسلم، وموسى، الطفل اليهودي الصغير.
تبدأ القصة عندما يبدأ موسى بسرقة بعض الأشياء من متجر السيد إبراهيم بسبب ضيق الحال. وبدلاً من معاقبته، يقدم السيد إبراهيم لموسى النصائح والحكمة، مما يساعده على تشكيل شخصيته وتطوير نظرته للحياة.
الرواية تستعرض كيف يمكن للعلاقات الإنسانية أن تتجاوز الحدود الدينية والثقافية، وتسلط الضوء على القيم الإنسانية المشتركة مثل التسامح، والحب، والصداقة. السيد إبراهيم يصبح بمثابة الأب الروحي لموسى، ويعلمه الكثير عن الحياة من خلال القرآن الكريم، مما يغير حياة موسى بشكل جذري. ومن خلال هذه العلاقة، يستكشف موسى القبول الذاتي وقيمة التسامح والتفاهم بين الثقافات والأديان المختلفة.
وفي رواية أخرى، تنتقل الخبرة المعرفية من الصغير للكبير، ففي رواية «الأمير الصغير» للفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري الذي يحكي قصة فلسفية ورمزية عن طيار يهبط في الصحراء الكبرى، ليلتقي بصبي غامض من كوكب بعيد. فيسمع من هذا الصبي قصصًا عن رحلاته إلى كواكب مختلفة ولقاءاته مع شخصيات متنوعة، مثل الملك، والرجل المغرور، والثعلب، والوردة. تتناول الرواية من خلال رحلات الصبي (الأمير الصغير) مواضيع عميقة مثل الحب، والصداقة، والفقدان، والبراءة، والنظر إلى العالم بعيون الأطفال. وفي النهاية يعود الأمير الصغير إلى كوكبه بعد أن يلدغه ثعبان سام، ليترك الطيار، الذي يروي القصة، وحيدًا في الصحراء، لكنه يحتفظ بذكريات الأمير الصغير وتعاليمه العميقة حول الحب والصداقة والبراءة، وقبول الذات والآخرين كما هم.
في الحالات السابقة كان القبول حاجةً فردية. ولكنها قد تكون حاجة مجتمع كامل لتقبل الحياة في أسوأ الظروف. ففي رواية الخيال العلمي (ساعي البريد) للكاتب الأمريكي ديفيد برين، يقدم فيها تخيلا للحياة بعد انهيار المجتمع بسبب حرب نووية، وكيف تقبل الناجون الوضع بعد فقد أساسيات الحياة.
تبدأ أحداث القصة حين يجد بطل الرواية، ملابس ساعي بريد قديمة، فيبدأ في تسليم الرسائل التي يجدها. هذه الرسائل تصبح رمزًا للأمل والتواصل بين الناجين، وتساعد في إعادة بناء المجتمع.
الرواية تستكشف موضوعات إيجابية مثل الأمل، والإنسانية، وقوة التواصل في مواجهة الكوارث. كما أنها تعكس كيف يمكن للأفعال البسيطة أن تحدث تأثيرًا كبيرًا في حياة الناس. أ
ما الكاتب البولندي جيرزي كوزينسكي فيستعرض في روايته (الحضور) موضوع القبول الجمعي للزيف إذا تم تغليفه بشكل أنيق. فمن خلال قصة شخصية تشانس، البستاني البسيط، الذي لا يعرف القراءة أو الكتابة، معتمداً على ما يشاهده على التلفاز لفهم العالم من حوله. حيث قضى حياته في حديقة منزل رجل ثري. وبعد وفاة الثري، يجد تشانس نفسه مضطرًا لمغادرة المنزل لأول مرة في حياته. وبفضل مظهره الأنيق وسلوكه البسيط، يتم تفسير تصرفاته على أنها حكمة عميقة من قبل الشخصيات التي يلتقي بها، فيتم قبوله بشكل غير متوقع في الأوساط السياسية والاقتصادية بما في ذلك رجال الأعمال وقادة العالم.
الرواية تسلط الضوء على كيف يمكن للتفسيرات الخاطئة أن تؤدي إلى قبول غير مستحق، وتستكشف موضوعات مثل الإدراك والواقع وتأثير الإعلام على الفهم الجماعي. من خلال هذه الأمثلة، نرى أن القبول ليس حالة ثابتة، بل هو صراع مستمر. فالشخصيات الأدبية غالبًا ما تتعارض مع المجتمع، ومع نفسها، وكذلك مع الظروف التي تحيط بها. ولكن في النهاية، قد يكون خيارهم النهائي إما القبول أو الرفض. هذا التناقض هو ما يجعل موضوع القبول مثيرًا للاهتمام ويجعله حاضرًا في كل عصر.
يعتبر القبول، مفهوما بسيطا ظاهريًا، مع انه الأساس الذي تبنى عليه العلاقات. إنه اللغة الصامتة التي تغذي التفاهم والتعاطف والنمو. يعتبر القبول أمرًا بالغ الأهمية في العلاقات الشخصية، فالقبول بين الزوجين، اعتراف بالاختلافات والخصائص والعُيوب وتقبلها. ليصنع مساحة آمنة حيث تتعايش الأصالة مع الحداثة، والترتيب مع الفوضى، والتعقيد مع البساطة. لذلك تزدهر الصداقة المبنية على القبول المتبادل، ومن ثم التقارب وتقدير الصحبة والعلاقة الإيجابية، ودعم الأحلام والتطلعات. أما في بيئة العمل، فالقبول يشجع على تكوين بيئة إيجابية ومنتجة، من خلال احترام وجهات النظر المتنوعة ودعم روح الانتماء.
يتجاوز القبول العلاقات الإنسانية ليشمل بيئتنا، سواء كانت الأرض أو الوطن أو البيت، فإن تقدير الثقافة والتاريخ والجمال هو شكل من أشكال القبول. وذلك يشمل الانسجام مع المحيط. حتى الأشياء الجامدة مثل السيارة والطريق والجبل والتل لتكون مصدرا للقبول؛ فإن تقبّل حدودها وخصائصها يمكن أن يعزز علاقتنا بها. وهذا يعني أن قبول بيئتنا يعني إدراك تأثيرها على حياتنا واتخاذ خطوات وإجراءات لحمايتها، وذلك للعيش في وئام مع الطبيعة. القبول ليس استسلامًا سلبيًا بل اختيارًا نشطًا، يمكّننا من بناء علاقات أقوى، وتقليل التوتر، وتعزيز النمو الشخصي، والمساهمة في عالم أفضل، من خلال احتضان الاختلافات والعيوب، فنقوم ببناء روابط أعمق، وإيجاد السلام وسط التحديات، وتطوير الذات، وتعزيز مجتمع متناغم، ليصبح قوة تحويلية تثري حياتنا على لتحقيق المزيد من الرضا والارتباط بالآخرين والعالم من حولنا.
القبول يشمل البحث عن حلول للمشكلات، وإذا لزم الأمر قبول الانفصال إذا وصل الأمر إلى منتهاه. فالزواج يمكن حله بالطلاق إذا استنفذت جميع الطرق لإبقائه، والوظيفة يمكن الاستقالة منها إذا زادت مشاكل الوظيفة عن مكاسبها، وهكذا في العلاقات الإنسانية والعلاقة مع البيئة المحيطة.