سهام القحطاني
الرؤية بعين واحدة،لا تمثل حقيقة.
خطاب الكراهية ليس وليد صناعة السينما بل هو قديم الأزل منذ النزول الأول للإنسان في الأرض، حتى أصبح محركا رئيسا من محركات بنية الأدب و الفن بكافة قوالبه في كل زمان و مكان، الحكاية التي تقوم على الغيرة و الكراهية و الحقد و الحسد ، فالإنسان يتطور في الشكل لكن لا يتغير في الطبع و الغريزة، وظلت السينما و ستظل تستغل ذلك الطبع و الغريزة لتشويه الحقائق و تعميق خطاب الكراهية بين الشعوب.
وبعيدا عن التعميمات التي قد توقعنا في فخ الوجدانية،فماهي ثيمات خطاب الكراهية؟.
*القصدية،و المراد بها توجيه المتلقي إلى إدراك مخصوص مدعوم بتضخيم في الرؤية، إن القصدية الإدراكية هي قيادة عقل الفئة المستهدفة إلى عالم افتراضي يُحول عبر مؤثرات الصورة إلى واقع حقيقي، وهو ما يخلق تطابقًا متوهمًا بين ذلك الواقع و ذهن الفئة المستهدفة، ليحقق في نهاية المطاف صناعة «اعتقاد» أو «أدلجة» مخصوصة.
لقد استفاد صنّاع الوهم من نظريات علم النفس الإدراكي؛فنحن نؤمن بما ندركه سواء ذلك الإدراك كان حقيقيًا بالوجود أو حقيقيًا بالفعل» وبذلك نستطيع اختلاق إدراك خاص نهيمن من خلاله على المتلقي عبر تقديم صورة محاكيّة لمعطيات تجربة الإدراك» وهنا تأتي خطورة السينما؛ لأنها تقدم لك تجربة إدراكية قد يصنع منها المشاهد «اعتقادا ما أو تصديقًا ما».
ولذا يعتبر جون سيرل أن أي اعتقاد ناشئ من قصدية ذات أهداف مؤدلجة موجِّه لذهن المتلقي تحمل خطرا في تحويل المٌدرك المتوهم إلى حقيقة مطلقة سارية المفعوليّة.
*أيديولوجية التمثلات، يقوم الأدب و الفنون بكافة قوالبه على «صناعة الأيديولوجية» سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لضمان تابع وكلما اقتربت تلك التمثلات من «النمط الحيوي»؛ الواقع أو ما يقوم مقامه كان تأثيرها أعمق؛ باعتبارها المضمون الصادق والمنطقة الآمنة من الافتراء، وخطورة هذا المنحنى المتصاعد للصدقية الزائفة تقوى من خلال الصورة و تقنيات تأثيرها كالسينما،أو البلاغة في الأدب.
فإذا تأثرت بمضمون صورة أو مشهد فأنت تعتمده فيما بعد سواء في ذاتك الواعية أو غير الواعية في بناء تمثلات في مواقف مختلفة تتشابه من التمثلات الأولى التي ظلت ذاكرتك محتفظة بها،وهو ما يجعلنا نعمم أحكامنا الخاطئة وفق ما احتفظت به ذاكرتنا من صدى لتأثير مضمون تلك الصورة أو المشهد،أو ما تُسمى «بتزامنية الخلفية-الذاكرة و الوعي- و الواقعية»،باعتبارها الشرط المسبق لوجود أي تمثيل كما يقول «جون سيرل».
*التضخيم وتحويل الفردية إلى مقياس جمعي؛ دائما نقول إذا أردت أن تجذب مشاعر الآخرين «فضخّم قصدك»، أي تصميم بنية دلالية لاعتقاد ما والتضخيم هو تكوين لا يٌحقق إلا بالافتراءات، وكلما زادت مساحة الكذب والافتراءات نفش قصدك الموجِه».
ومن نافلة القول بأن الدلالة أو المعنى في الفن وخاصة السينما يختلف عن أنواع الفنون و الأدب،و التي تحظى فيها الدلالة و المعنى بمساحات حرة من التأويل و اكتشاف مواطن الكذب و الصدق.
في حين أن الدلالة في السينما محددة الإطار وخطيّة المباشرة وهو يساعد على تضخيم تلك الدلالة واحتسابها المعيار للشمول، والتضخيم يُقدم بطريقتين:
التعميم بتحويل الفرد إلى كل، وهذه ثيمة هجائية عُرفت عند العرب.
وتحويل أسلوب الحالة إلى منهج جمعي، وهذه صياغة سينمائية موجِه لذهنيّة المشاهد وتأطيره بنظرة أحادية من خلال تكثيف الجرعات الوجدانية والمبالغة في الوجع، لمحاصرة تلك الذهنية ومنعها من أي تفكير عقلي يقيس منطقية وسلامة و صحة هذه الصورة و دلالاتها.
*الالتفاف بالكذب، إن الكذب هو أساس صناعة التجربة الإبداعية «فالكلمات الكاذبة أكثر إقناعا» كما يقول أفلاطون،وهو هنا يُشير إلى أثر البلاغة «مجموع الانفعالات الوجدانية الموجِه إلى المتلقي» وما تحققه من تأثير نفسي قد يحول الكذب إلى صدق و حقيقية، وهذا الملمح نجده عند «ابن طباطبا» الذي قسم الكلمات إلى أقسام وجعل ما بعضها كذبا وهي بناء للدلالة الجدلية ،و ماهو كله كذب لا محالة وجعلها أساس بناء للدلالة الشعرية.
أما ابن سينا فذهب إلى أن الكذب «قوة تخيّلية» يميل إلى تصديقها الناس أكثر من ماهو صدق بالحقيقة،وأن التخيّل لو استأنس بمحاكاة شيء زاد التصديق به بل و أصبح هو صدق،و استكره الناس ماهو صدق بالفعل ،لكون «التخييل إذعان للتعجب و الالتذاذ بنفس القول».
فكلما أغرقت تجربة في الكذب بصورة احترافية انتزعت تصديق الناس لها و التعاطف معها،وغاب عنهم التميز بين الصدق و الكذب، مثلما تسلط فلاش قوي على نظر أحدهم فيفقد الرؤية ويقع في الفخ الذي أمامه.
إن السينما هي الرؤية بعين واحدة ولذلك لا تمثل أبدا الحقيقة.
وأن الحقيقة التي ستظل راسخة؛ بأن فيلم يمتلئ بالكذب و الافتراءات، ويروّج لخطاب الكراهية، لن يضر بعظمة دولة،التاريخ و العالم يشهدان على إنسانيتها وإنسانية شعبها العظيم.