د. شاهر النهاري
فن الكاريكاتير المصري يظل من أهم المناحي الفنية الفكرية، التي عاصرت خفة دم شعب مصر منذ البدايات، وبتعاقب مراحل الشدة وحتى يومنا، وعلمت العرب الضحكة والنقد العميق المؤدب.
صحيح أن مستوى الاهتمام بهذا الفن العظيم لم يعد كما كان أيام الرواد يعقوب صنوع وأحمد طوغان وحجازي وصلاح جاهين، ورخا، ومصطفى حسين وحسن ومحمد حاكم، وناجي، وعمرو سليم وغيرهم، ولكنه اليوم يحاول التواجد ومد ضلوعه مرة أخرى ومواكبة قضايا الفكر والسياسة والمجتمع والفنون، ومهما تحدر بأهله الزمن.
وفي 12 أغسطس 2024 كانت احتفالية الملتقى الدولي الثامن للكاريكاتير، بمناسبة تكريم شخصية الفنان الكوميدي سمير غانم، في كرنفالية فطوطية فنية عجيبة، ظهر لي علاقة أهل الكاريكاتير بتلك الشخصية، التي تتدفق بالمفاهيم الكاريكاتيرية.
ارتصت على جدران قاعات المهرجان الصور الإبداعية، ليس من إبداع فناني الكاريكاتير المصري، ولا العربي فقط، بل باستضافة دولة إسبانيا كضيف شريك، ومشاركة مختلف دول العالم، الذي ما زال يقدر هذا الفن.
حقيقة لقد انبهرت بما رأيت من مختلف الرؤى، فهل فعلا عرف العالم الكوميديان سمير غانم بذلك العمق، أم أن نظم المشاركة تتطلب من المبدعين البحث والمقارنة والمحاكاة والتعمق؟
ما رصدته من وجوه متعددة المعاني، وأوضاع جسدية للراحل سمير غانم أدهشني، فكل فنان حاول بريشته وإبداعه أن يخرج من جوف سمير حكاية تختلف، ومواقف شاهدة، وبمغازي نظراته، وتقاطيع وجهه، ودمج وتجزئة تحكي بنفس جنون الفرحة الفطوطية، التي كان يهيلها على رواد مسرحه، ومتابعي أعماله السينمائية والتليفزيونية، بخفة دم، وتعدد معاني، وبما يعرفه رسامي الكاريكاتير، عن شخصيته المرحة، وقدراته على التدليل بأقل الكلمات، فصوروا تموضعه وقدراته وما يخبئ بعينيه وعمق مشاعره بطرق أدهشني التناول الفني فيها، رغم أني أدرك أن أغلبيتهم لم يعرفوه عن كثب، ولكنها عين وقلب رسام الكاريكاتير العالمي، ولغته الكونية، وقدرته على البحث والتصفح لبعض أعمال الفنان المقصود بالتكريم، ليرسموا بمختلف الألوان والأضواء أجزاء من مسيرته الفنية.
ما شاهدته كان عظيما ومستغربا، فكأننا بحضرة الصامت شارلي شابلن، والجميع يتحدثون عنه، بأقل الكلمات، وعبر طبع الملامح والمعاني على الأوراق بصور كوميديا فنية مدهشة مبالغة إلى حد عين المصداقية!
أعمال عديدة كنت أحتاج لأيام طوال لأستمتع بمصاحبتها ومناقشتها مع من رسموها، ولكي أهضم فواكه اللوحات ودسمها، وأعيش مع كل فنان عمق رؤيته وجنون تعبيراته ومساحات نقده بالخطوط.
المعرض كان جميلاً ومؤثراً، ويبدو وكما سمعت أنهم جد متفائلون بوزير الثقافة الجديد أحمد فؤاد هنو، ويتمنون دعمه ليس المادي فقط، ولكن بكل ما يخدم صناعة الكاريكاتير باستعادة الأهمية والحضور غبر التواجد اليومي والأسبوعي في الصحف والمجلات، ورفع سقوف حرية الطرح، وتمكين الفن الحقيقي من تصدر المنابر التي تمكن الرسام من تحليل المواقف بكل حرية وضحكة ورسمة، قد تغني العين والقلب واللب عن كلمات تسيح كفيضان السيول.
لقد سعدت برؤية شقيق الراحل سمير (سيد غانم)، وهو يغالب سعادته وفخره بما شاهد، وسألته إن كان سيحتفظ بالرسمات، ويضعها في أي متحف لبعض مقتنيات الراحل، ولكنه تعذر بكثرة الأعمال، وعدم وجود الأمكنة، فنصحته أن يقوم على الأقل بنسخ دقيق للأعمال، وحفظها في فلاش، حتى يعاد استخدامه في المناسبات القادمة.
حزنت أن ابنتا سمير غانم لم تكونا حاضرتين، رغم أن لوحات كثيرة كانت تجمعه مع الراحلة زوجته دلال، أمهن.
وفي زاوية المعرض متعدد المعاني حزنت كثيرا بدهشة وصدمة لوحة لتأبين الفنان الفذ محمد حاكم، والذي وافته المنية قبل شهرين، وكنت أعزه كثيرا على المستوى الشخصي، وكم أغرم بتفتيت رسماته العميقة المجتمعية حوارا معه، والتي تقول أكثر مما يظهر من خطوطها البديعة وعمقها، رحمه الله.
وكنت قد قابلته في مهرجان الكاريكاتير بمدينة الفيوم، بدعوة من الرسام الكبير محمد عبلة، قبل سنتين في مرسم الفن الريفي، فتحادثت كثيرا مع الفنان حاكم، وتشعبنا عميقا واتفقنا على صنع لقاء خاص معه، استعرض فيه محطات حياته الطويلة، وحكاياته العجيبة مع عشق الكاريكاتير مروراً ببلوغ وتأثير المنافسة بينه وبين أخيه الأكبر الرسام المبدع حسن حاكم.
وقد أخذت معه صور اللقاء وأرسلت له الأسئلة، عبر صديق في الوسط، وكان أن مرت الأيام تباعاً دون فرصة للإجابة عن أسئلتي، وكان الوقت كان يمضي، والتسويف يستمر، رغم تشويق عظيم أظهره لي أثناء لقائنا!
رحمه الله ولعلي أحكي عنه أكثر في مقال قادم، كون الرحيل الجماعي الحزين المنبع جعلني أتوقف لأرمي بياض الورد على أرواح الراحلين، بحروف تشابه رسمة كاريكاتيرية منسية فوق جدران مركز الفنان محمود مختار الثقافي، الذي يستمر محتضنا لروائع الفنون بين جنباته في مختلف المناسبات الفنية.