عبدالله العولقي
تميز المتنبي عن سواه من الشعراء بخلود حكمه التي تحولت مع عامل الزمن والوقت إلى أمثال تتردد على ألسنة الناس في معظم المجتمعات العربية، فكانت هذه الحكم والأمثال سبباً من أسباب خلود المتنبي في الذاكرة الشعبية العربية، كقوله مثلاً:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فهذا البيت يردده الكثير من الناس عندما تتوافق الحالة وتتصادف في حياتهم اليومية مع مقتضى البيت، لكن لماذا لجأ المتنبي في زمنه إلى شعر الحكمة؟ هل كانت الحكمة غطاءً أو رمزية كما نفهمها اليوم إلى معان كان يقصد إرسالها لسيف الدولة أو لكافور أو حتى لحاسديه؟ أعتقد أن هذا التساؤل فيه نسبة كبيرة من الصواب عندما يتعلق الأمر بمجلس سيف الدولة، ولكن حكمه الأخرى فهي بلا شك نابعة من تجاربه المريرة مع الحياة.
من المعروف أن الشعر العربي لم يعرف مفهوم الوحدة الموضوعية إلا بعد تأثره بالآداب الأجنبية في القرن العشرين، وأما قبل ذلك فالقصائد تتنوع في داخلها من الموضوعات المختلفة، والتي كانت الحكمة أحد موضوعاتها، وبما أن حديثنا الآن عن الحكمة فنقول أن أبيات الحكمة كانت تتميز بأنها مستقلة نوعاً ما عن موضوع القصيدة، استقلالاً في المضمون والتركيب، كما قال ابن رشيق في عمدته: أن أستحسن أن يكون كل بيت قائم بنفسه، لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده، وهذا ما حصل مع أبيات الحكمة عند المتنبي مع مرور الوقت والزمن، فأصبحت أمثالاً تتداول وتجري على ألسنة الناس على الرغم أنها في ظرفها الزمني لم تكن إلا قناعاً للشاعر يقول من خلاله ما لا يستطيع أن يقوله بوجهه الحقيقي، فهي تشبه حالة الرمزية في وقتنا هذا.
ويرى الدكتور جلال خياط -رحمه الله- أن قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
وا حرَّ قلباه ممن قلبه شبم
ومن بحالي وجسمي عنده سقم
تمثِّل ذلك الاختباء الذي عناه الشاعر من وراء النص، فكانت الحكمة بمثابة الرسائل التي يريد الشاعر إيصالها إلى الحاكم سيف الدولة وإلى مجلسه الذي يعج بالكارهين والحاسدين له.
ففي هذه القصيدة نجد المتنبي يقول:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
يك الخصام وأنت الخصم والحكم
هذا البيت طارت به الركبان عبر الزمان والمكان ولا يزال يتردد على ألسنتنا حتى اليوم رغم أن المتنبي لم يكن يقصده كمثل يجري على ألسنة الناس ولكنها رسالة رمزية مبطنة إلى سيف الدولة، وللمعلومية فكل بيت من هذه القصيدة هو رمزية لرحيل المتنبي عن بلاط حلب ومغادرته لمجلس سيف الدولة، وحتى تتضح الصورة أكثر نتأمل بيت الحكمة الذي يقول فيه:
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
فالرمزية في هذا البيت هي تعريض لسيف الدولة بأنه لا يعرف كيف يفرق بين محبيه وكارهيه، ويعني أنه يقرب كارهيه منه في مجلسه ويستمع لكلامهم ويبعد عنه محبيه ويقصد نفسه، وربما تجرأ المتنبي على هذه الرمزية العنيفة ليبعث رسائله الأخيرة لسيف الدولة برحيله عنه، والذي أكدها لاحقاً بقوله:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم، فالراحلون هم
ولم يرسل المتنبي رسائله الرمزية لسيف الدولة من خلال الحكمة والمثل في هذه القصيدة فحسب، بل أرسلها أيضاً من خلال أبيات مدحه لنفسه وثنائه على ذاته في مجلس الأمير وأمام الملأ، ونحن هنا أمام ظاهرة تاريخية ربما لم تحدث في التاريخ الإنساني كله، فلم يجرؤ شاعر أن امتدح نفسه بهذه الكثافة الأنوية أمام حاكم ما إلا المتنبي، فكما أن سيرته وشعره استثناءً في الأدب العربي فكذلك كانت مواقفه أيضاً، فيقول عن نفسه:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
هذا التكثيف الأنوي لنفسه أمام الأمير هو رسالة مبطنة تحمل رمزية الهجاء لسيف الدولة، فلو تأملنا أبيات مدح سيف الدولة في هذه القصيدة لوجدناها تخلو من صدق العاطفة وحرارة الحب مقارنة بقصائده السابقات، أما هذه القصيدة والتي أفرغنا لها مقالاً سابقاً في هذه الصحيفة الغراء بعنوان (المتنبي والمجلس الأخير) هي قصيدة رمزية مبطنة تحمل بصورة أو بأخرى هجاءً لسيف الدولة عندما يمتدح نفسه بهذه المبالغة دون أي مراعاة لبروتوكول الأمير في المجلس!
وإذا عدنا إلى موضوع الحكمة عند المتنبي لوجد ديوانه يعج بالكثير من تلك الأمثال والحكم، وقد جمع أغلبها في كتب ورسائل حملت عنوان أمثال وحكم المتنبي، ولا شك أن تلك الحكم والأمثال أتت بصيغتها التجردية المنفصلة عن سياقها الزمني والتي كانت تحمل في مضمونها رسائل مبطنة ورمزية للمدوح، وهناك رأي آخر ربط بين تلك الحكم وأقوال حكمة منسوبة للفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو، وأن المتنبي سمعها من الفلاسفة الذين كان يعج بهم مجلس سيف الدولة فتأثر بتلك الحركة العلمية السائدة في حلب، وجل ما صنعه أنه حولها ضمن قصائده إلى حكم وأمثال، وربما يكون السببان مرتبطان معاً، والله أعلم.
هناك قصيدة أخرى سابقة زمنياً لقصيدة وا حرَّ قلباه، ألقاها بين يدي سيف الدولة يوم عيد الأضحى، وهي قصيدة تشبه القصيدة الأولى في بعض الأوجه، فهي تعج أيضاً بالحكم والأمثال السائرة كقوله:
ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده
تصيده الضرغام فيمن تصيدا
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
وهي قصيدة رمزية أيضاً، بالغ فيها المتنبي بمدح نفسه والثناء على شعره وقصائده، كقوله:
وما أنا إلا سمهري حملته
فزين معروضاً وراع مسددا
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمراً
وغنى به من لا يغني مغردا
أجزني إذا أنشدت شعراً فإنما
بشعري أتتك المادحون ترددا
ودع كل صوت غير صوتي فإنني
أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
وهذا التكثيف هنا لا يختلف عن القصيدة السابقة وكأنه تعريض بالرمزية التهكمية إلى سيف الدولة، ويكفي أن هناك بيتاً واحداً يعكس تلك الرمزية يقول فيه:
أزل حسد الحساد عني بكبتهم
فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
أما الاختلاف بين القصيدتين فنفهمه في سياقه الزمني، فالقصيدة الثانية سابقة زمنياً عن الأولى، وفي تلك الفترة كانت العلاقة بين الشاعر والحاكم رائعة جداً، بمعنى أن العصبة التي تأسست لإفساد العلاقة بين الأمير والشاعر لا تزال في مرحلة زرع الفتنة، ولذا نجد أبيات مديح المتنبي للأمير صادقة في عاطفتها على عكس القصيدة الأولى، وإن كان المتنبي قد بدأ يعاني من تلك العصبة كما صرح في بيته السابق بقوله: أزل حسد الحساد عني.
يقول في هذه القصيدة مادحاً للأمير:
تظل ملوك الأرض خاشعة له
تفارقه هلكى وتلقاه سجدا
ويقول أيضاً:
وقيدت نفسي في ذراك محبة
ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
وخاتمة القول، أن شعر المتنبي في أول لقائه بسيف الدولة كان صادقاً في عاطفته ولا يتضمن الرمزية التي أجاد المتنبي صياغتها عبر شعر الحكمة، ولكن مع تشكل عصبة الحساد في مجلس الأمير ومحاولاتهم إيقاع الضغينة بين الشاعر والحاكم، بدأ مؤشر العاطفة الصادقة في المحبة بالانخفاض حتى وصل إلى أدنى درجاته في قصيدة وا حرَّ قلباه وفي نفس الوقت ارتفع شعر الحكمة المتضمن للرمزية حتى وصل أعلى درجاته في تلك القصيدة.