د. عبدالإله بن عثمان الصالح
كتاب «بتوقيعي» الذي صدر وفيه لمحات من حياة معالي الشيخ عبد الله العلي النعيم وعنها. كتاب أضعه حسب تصوري في خانة السير. قرأت الكتاب ووجدتني أقرأه بذبذبة تماثل أسلوب كلام « أبي علي « صاحب المعالي كريم الخلق، خالص الوطنية، صاحب الإرادة، الشيخ يتكلم بصوت لم تحرمه جهوريته من لطفه وسمت عطفه. يتحدث بجمل متتابعة بدون تكلف، ومعانيه واضحة، وأسلوبه عفوي لا تنقصه سرعة البديهة وشجاعة الرأي وسلامة السليقة. وتلك طباع الواثق في نفسه صاحب الخبرة الطويلة والشجاعة الأدبية والثقافة الشاملة.
ولكن أسأل نفسي قبل الخوض في الكتاب .. أسأل نفسي: لماذا نقرأ كتب السير؟ ثم لمن أكتب هذه السطور؟ سؤالان سألتهما نفسي، وها أنا أكتب هذه السطور مجيبا على السؤالين، معقبا بالتعليق على ما قرأت في كتاب «بتوقيعي»
أما لمن أكتب هذه السطور!
فإنها للشباب والشابات من أبناء وبنات الوطن، ومن هم في البداية من عتبات سلم الحياة الدراسية أو العملية! وكل قارئ كريم يحب التنور بتجارب الآخرين وخصوصا من برز منهم ونجح في مجاله. ولكنها بالتأكيد ليست موجهة لمعالي الوالد عبد الله النعيم صاحب الرحلة. وتكتمل الإجابة على هذا السؤال بالبحث حول لماذا نقرأ كتب السير ونقبل عليها ونثمنها؟
إننا نتعلم بالتقليد والمشابهة والاقتداء. نستعير عقل شخص استثنائي وخبراته وتجاربه و التحديات التي واجهها و نتلبسها، تأملا و تحليلا و مراجعة، في سبيل تحسين الذات و تطويرها و الارتقاء بها. إن الحياة رسم وخط بقلم ليس فيه «محاية».
مثل إنك لا تلغي رنة الجرس بعد قرعه، فإنه الأرشد أن تتوقع التحديات و الجروح المحتملة و الآلام الناتجة عن السقوط ضحية لها .
وقراءة السير وخبرات الآخرين أشبه ما تكون بأجهزة القيادة الافتراضية التي يدربون فيها الطيارين قبل الإقدام على الطيران الفعلي، حيث إما السلامة أو الارتطام! قراءة السير وخبرات الآخرين تعطي ثراء في فهم الأشخاص والأحوال والشؤون، الأسود منها والأبيض والرمادي بينهما. وكما قال أحد القادة الأفذاذ: « الغبي من يحصر تعلمه من أخطائه، والراشد من يتعلم من أخطاء الآخرين».
إن التأريخ لا يعيد نفسه، لكن جملة لا شك، ذات سجع وقافية.
هناك سياسة في التفكير والتأمل في السير أشار بها على والدي عثمان الصالح رحمه الله، وسميتها « التحليل العكسي للأحداث و التجارب «. إنه نموذج جبار للتفكير والتحليل، يعني تحليل الأحداث عكس ما جرت عليه في طبيعتها حيث نبدأ من نتائجها ونهاياتها.
إن مدارسنا تعطي الدروس ثم تليها الاختبارات، ولكن وكما قال أحد مشاهير الرياضة التنافسية « إن تجارب الحياة مدرسة قاسية، فهي تعطي الاختبارات قبل الدروس»
إن قراءة الروايات والسير تحفز الذكاء العاطفي الذي يعتمد على القدرة على إدراك عواطفك وفهمها وعواطف الآخرين وتقديرها، والقراءة عموما وقراءة السير خاصة لا تعين على ذلك وحسب، بل وتكسبنا المفردات والمفاهيم التي نناقش بها أنفسنا و الآخرين حول الواقع الحسي و القلبي، و نعمل التفكير فيها. تلك المعلومات والمعارف والنتائج التي نتفوق بها على أنفسنا ونتجاوز بها المقدمات إلى النتائج، هي نتائج المفردات وتوظيفها في التفكير لأنها ضرورية لإدارة ومعايير العواطف مع التحديات والمواقف المختلفة.
إن وضع الذات في مكان الآخر حسا وظرفا، الذي توفره قراءة السيرة، أمر عظيم شأنه في العيش والسلم الاجتماعي وتقبل الآخر. نقرأ عذاباتهم ومقاساتهم وفقرهم ومظالمهم وتطلعاتهم، باختصار! إنسانيتهم ... نقرأ ذلك ونضعه تحت خانة سيرهم وما واجهوه و اضطروا لتجاوزه، لأننا نعلم نهاية القصة. نجحوا واشتهروا، ولكننا ننسى التفاصيل حين تتماهى و تبهت، بل تتوارى خلف إشراقات و سطوع نجاحاتهم، و لكن الحقيقة غير ذلك فإنهم لم يحققوا ما حققوا إلا بإخفاقات و مقاسات و متاعب و تحديات بل و معوقات. ووضع الذات محل الآخر وتذوق الصعوبات تعين على فهم ناضج لتجارب الآخرين ونجاحاتهم التي لم تكن سهلة ولا آنية.
قال أحد الفلاسفة: « نحن أقزام نجثم على أكتاف عمالقة القدماء، فنرى بعيدا، بل نرى أكثر منهم. وهذا ليس لحدة بصائرنا وأبصارنا أو علو في قاماتنا ولا لعبقرية في أذهاننا بقدر ماهي أفضال العمالقة الذين حملونا على أكتافهم لنرى أبعد وندرك أكثر»
ليس أفضل من السير وقراءتها في العون على اكتشاف الذات خلال رحلة مع وخز الآلام وأحزان الأسى وإيحاءات النجاح وإيماءات التقدم، ليس مثل القصص فصلا دراسيا، سقراطي الأسلوب وواقعي المنهج ...
عذراً على الإطالة والاستطراد في مسألة السير وقراءتها، ولكنني على قناعة بأنه يلزم شبابنا أن يضعوا كتب السير على قائمة قراءاتهم. خصوصا سير رجالات بلادنا التي كتبوا بأقلامهم أو كتبها كتاب متخصصون رزقهم الله المهارة والموضوعية، والوطنية، والتعطش للاطلاع، والا ستقصاء. وهم و الحمد لله في تزايد في بلادنا. أذكر منهم (محمد السيف و خالد الخويطر و عبدالله الزازان و محمد الشريف و أحمد العساف فهم من اطلعت على كتبهم و كتاباتهم و هناك لاشك غيرهم). و لكن لا شك أن السير التي يكتبها أبطالها لها ما لها و عليها ما عليها، و لكنها تبقى وثائق أصلية مهمة مثقلة سطورها بالمعاني و الشهادات كما ما بين السطور أيضا.
وبين يدي كتاب من هذا النوع. إنه كتاب « بتوقيعي «. كاتبه رجل نجح و أي نجاح، و صارع و أي صراع، و عمل وأي عمل! إنه الشيخ عبد الله النعيم صاحب المعالي واليد الطولي في أكثر من قطاع حيوي في مجالات التعليم، الشؤون البلدية، و التنمية و الشؤون الاجتماعية، في بلادنا بالدرجة الأولى و في الإقليم أيضا، و كان و لازال محل ثقة ولاة الأمر من الملوك و الأمراء يعتمدون عليه بعد الله في المهام الوطنية الهامة
كما أنه محل احترام وثقة زملائه الوزراء ووكلاء الوزراء والقياديين في القطاع الخاص ممن جايلهم وجايلوه.
قرأت سيرته التي كتبها، بقلمه وتوقيعه مختصرة، جذابة، وأعتبر نفسي محظوظا فأنا أعرف معاليه شخصيا فأفهم ما كتب بأبعاد ثلاثة، بعد المعاني التي تحملها السطور، و بعد معرفته و شرف الحديث معه، و بعد الاحترام و المودة. وكان لي شرف وحظ التعامل معه في تجربتين أعانني فيهما ولم نحقق فيهما الأهداف، ولكنني كسبت ما هو أكثر من النجاح. أذكر الأولى وأترك الثانية لوقت آخر حيما تسمح الظروف.
تخرجت من كلية الهندسة المدنية من جامعة أمريكية في عام 1401هـ وعدت الى الوطن وكانت بعثتي الدراسية هناك على حساب وزارة الدفاع والطيران.
لاحظت كما غيري، الطفرة العمرانية في بلادنا ولفت انتباهي تحديات الرياض، حيث ولدت ونشأت. وكان واضحا أن هناك حراكا يستجمع قواه لتنمية وتنظيم الرياض بقيادة أميرها الفذ، مثل كافة مدن المملكة. وكان التوجه مؤسسي من خلال إيجاد مؤسسات حكومية مرنة للتخطيط وإنشاء المشاريع تصميما و تنفيذا تعمل في إطار أنظمة و تنظيم و حوكمة. فقابلت الشيخ عبدالله النعيم فارس المعركة المنتظرة لاستشارته، استشارة الابن والده، والتلميذ معلمه (بتوصية من والدي الأستاذ عثمان الصالح رحمه الله ، فقد كانت تربطهما علاقة متينة و قديمة بدأت في عنيزة و استمرت على صعيد التعليم و همومه و مؤسساته و كان الاثنان من فرسانها )
فقال لي الشيخ عبدالله بعد تأمل: إنه في ضوء ما أبديته لي من رغبة و حماس، فإنني أقترح أن تطلب النقل لهيئة تطوير الرياض / مكتب المشاريع فهو في طور التكوين و تحت نظر أمير الرياض ( الملك ) سلمان بن عبدالعزيز (حفظه الله)الإداري الحازم و الحاكم المثقف خريج مدرسة عبدالعزيز وسنوات من الخبرة في الإمارة والحكم.
فباشر الشيخ توصيته بأسلوب القائد الميداني، قائد بنظرته الشاملة وميداني بمباشرته للتفاصيل. ولكنه نصح أولا بالاستئذان من سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز رحمه الله رحمة واسعة وقدس روحه في جنات النعيم. وعرض معاليه أن يكتب خطابا لسموه يطلب التخرج للعمل في مجال تخصصه وفي مدينته، والانتقال من كادر وزارة الدفاع و الطيران إلى كادر الهيئة أو الأمانة المرجو من الله أن تكون مؤسسة تطوير الرياض. فكتب خطابا رقيقا لم أره لكن سمعت عنه. أحيل الخطاب من مكتب سمو الوزير إلى مكتب الشيخ (الفريق أول) عثمان الحميد رحمه الله رحمة واسعة، الذي كان حينئذ مساعدا لوزير الدفاع (جاء ذكره في كتاب « بتوقيعي « وهو لمن لا يعرفه أحد عمالقة العمل العسكري في بلادنا وحكمائه). حاولت هنا وهناك، ومن ورائي معالي الشيخ عبد الله النعيم باتصالاته الأبوية والأخوية. فصرت قلقاً وأتابع الموضوع من مكتب لآخر حتى قال لي أحد المسؤولين هامساً، عليك بزيارة الشيخ عثمان الحميد في منزله، ومحاولة انهاء الموضوع معه شخصيا، والخروج بالموضوع من سياق الرسميات. لأن المعاملة في مكتبه ويبدو أنه حجزها لأمر من نفسه. وسألت عن منزله رحمه الله فإذا به في حي جميل وقديم من الرياض. وحرصت على الوصول مبكرا ً قبل ان يزدحم مجلسه بعد عصر كل يوم. وبالفعل كنت أول الحضور. وإذا به في مجلس عربي واسع لطيف بسيط وهو جالس في رأس المجلس وحده وأمامه حزمة من الملفات. سلمت عليه وقبلت رأسه وعرفته بنفسي، فقال رحمه الله: « أعرفك .. وش تبي!»، فشرحت الموضوع واستمع بهدوء حتى خلته لا يعرف عن الأمر شيئا .. سكت هنيهه ثم قال: « اسمع يا ولدي.. . داوم بكرة في الاشغال العسكرية، وان جاني خبر أنك ما حضرت عندهم أرسلت لك الشرطة العسكرية !!»
فقلت بعد ارتباك: « سمعا وطاعة، ولكن هناك من نظرائي من سمحتم له بالانتقال من كادر الوزارة الى كوادر أخرى «، فقال:» هذا ليس من شأنك وحنا ابخص !!» ، الحق اني فوجئت بلهجة الخطاب . ولكن ارتفعت معنوياتي بعد حديثي مع والدي رحمه الله حيث فسر هذا التصرف من الشيخ عثمان والقرار من الوزارة بـ «ان الجهات الحكومية المحترمة والقيادات الحصيفة تغار على أبنائها ونتاج بعثاتها الذين استثمرت فيهم وتؤمل فيهم خيرا ولا يستبعد أن الشيخ تفاهم مع سمو الوزير والموضوع مقضي ولا داعي لمزيد من المحاولات»
أجبت الشيخ بالسمع والطاعة بصوت يخرج من حلق ناشف ورئة بالكاد تسحب الهواء الذي كأني به عدم في المكان ولم يكن موجوداً، وقمت هاماً بالخروج، فقال بلهجة مختلفة لطيفة أبوية: « اصبر .. تقهو يا ولدي « .. تقهويت ( و لست الآن متأكد هل هي قهوة أو شاي و هل فيه سكر أم لا ) بصمت و توتر و هممت بالخروج وعند باب المجلس قال بصوت أبوي خلاف ما قبله : « اسمع يا عبدالاله ! لا تسلط أبوك والشيخ عبد الله النعيم علينا عند سمو الوزير .. « أجبته: أبشر سم طال عمرك.. أو شيء من ذلك! وركزت في البحث عن باب الخروج ..
لأنني أعلم أن والدي أعتذر عن التدخل لنقلي (لأن والدي رحمه الله لا يشفع لأبنائه في الغالب وخصوصا فيما يخص في بيئة العسكريين) والشيخ عبد الله فعل ما يستطيع ولا أريد أن أحرجه بالمزيد، قبلت بالواقع ونقلت ذهني من إطار لأطار آخر. وحضرت من الغد في مكتب مدير عام الأشغال العسكرية القائد والمدير الفذ الأمير المقدم المهندس ناصر بن فهد الفيصل الفرحان آل سعود- رحمه الله -. كان هذا آخر أيام الحيرة وأول يوم من أجمل تجربة عملية يمكن أن يمر بها مهندس سعودي ذو قدرات عادية ومهارات شبه معدومة وخبرة تراوح حول العدم في وطن يضج بالنشاط والحيوية والثقة بالله ثم في ولاة الأمر فيه.
رأيت الشيخ عبد الله بعدها فلا أثار هذا الموضوع ولا أنا أثرته وكان هذا محل إعجابي وتأثري. و أترك لك أخي القارئ تأمل الموضوع (لا أستبعد أنه صار اتصال بين الكبار حول هذا الصبي الذي يعتقد أن الكون يدور حول رغباته و ميوله )......هكذا الحصافة ......
سوف تلاحظ أخي القارئ أن أبا علي لم يعمل تاجرا كما والده. بل وظف حياته في التعليم والقطاع الحكومي والخدمة العامة مع أنه يمتلك من القدرات ما يؤهله أن يكون من كبار رجال الأعمال (الذي ذكر بعض الرواد منهم)
سوف تجد في كتاب « بتوقيعي « أن حياة الشيخ عبد الله وأعماله وسيرته تقاطعت في كثير من محطاتها مع تجارب أناس كثر. و قد عدد بعضهم في سيرته المختصرة فوجدتهم ثلاثة أنواع، رؤساء له و معلمين و مشايخ، ثم أنداد و زملاء، ثم مرؤوسين (زملاء كما يسميهم ) .
أما الرؤساء و الأنداد فإنك أخي القارئ سوف تجدهم كل رائد في مجاله، و غالبهم ممن كسرو طوق محدودية بلداتهم و أسرهم و الأسقف الزجاجية في مجتمعاتهم بشجاعة من حيث بعد الرؤية و سعة الأفق و علو الطموح و لكنهم حافظوا على البقاء في إطار مجتمعاتهم ووطنهم ، خدمة وولاء وجاءوا من مختلف مناطق المملكة الفتية و مثال ذلك أستاذه الذي فصل في علاقته به، وهو عمي و أستاذي صالح بن ناصر الصالح رحمه الله، الذي يطلق عليه أوفياء عنيزة الأستاذ و المربي صالح بن صالح ، رجل فريد نوعه و رائد في مجاله أنشأ مدرسة حديثة في وقت كان سقف التعليم منخفضا جدا و مجالاته محدودة و آفاقه ضيقة و أساليبه بدائية، بل و الشك فيه و مقاومة تحديثه و لأبطالها صولات و جولات.
روى معاليه في الكتاب كيف أصر أهل عنيزة على الأستاذ صالح بالبقاء فيها وفتح مدرسته الحديثة التي كانت منطلق الشيخ عبد الله النعيم والعديد من أمثاله من الرواد في نجد الذين تسنموا مقامات عالية على الصعيد الوطني. ومثل ذلك الشيخ عبد الرحمن بن السعدي سابق زمانه في مجالات الفكر والشريعة، والشيخ محمد بن عثيمين مجال تعليم الشريعة وعلوم الآلة على أصولها بعبقرية لا تجارى، رحمهم الله جميعا. ومثل هؤلاء في الحجاز ونجد إبان بدايات نهضة التعليم. ومثل هذا وأكثر حداثة، من جايلهم في مجال الصناعة والتعليم الجامعي و القطاع البلدي، و من ثم القطاع الخيري بهذا التسلسل المتنوع العجيب. أما عن مرؤوسيه فلن تجد أحدا منهم إذا سألته عن الشيخ عبد الله إلا ابتسم راضيا وفخورا يعدد بسعادة تجربته مع كاتب السيرة، وأعرف كثيرا منهم دفع فيهم الشيخ روح العمل والقيادة فأصبحوا روادا في بلادنا، وإنني لأرجو أن يكتب كل منهم تجربته مربوطا بتاريخ نفخ به.
في الكتاب وسطوره مواقف عجيبة، ولحظات فريدة وما بين السطور ما هو أعجب وأكثر فرادة. إن السيرة المسطرة في كتاب « بتوقيعي « وما ألحق بها من صور وخطابات، بين أيدينا تستحق التأمل بعمق، والحوار حولها، ولكن أرجو ألا يخدع القارئ الكريم الاختصار في إيرادها وبساطة ذكر أحداثها و تواضع ساردها، فهي تشتمل في ثناياها حزمة من المهارات و القدرات و الهبات الربانية و الإنجازات العجيبة.
ما عليك إلا أن تتأمل تجربة تولي الشيخ إدارة تعليم (نجد)، حيث كان أول إجراء اتخذه ألا تصرف رواتب الموظفين فيها إلا بعد صرف جميع رواتب موظفي المدارس.
وتأمل لجوئه لقدرات الجيش العربي السعودي اللوجستية لنقل آلاف أسطوانات الغاز لمنطقة مكة المكرمة لما تولى إدارة شركة الغاز الأهلية، لشح قد تواجهها المنطقة في فترة الحج. أو سحب موظف من مكتبه الى خارج الإدارة وتوعده أنه سوف « يحش رجله لو عاد للمبنى « لأنه تأخر وأخر إنهاء معاملات لبعض المواطنين. وغير ذلك كثير.
سوف تلاحظ أيها القارئ الكريم أن الشيخ عبد الله يحترم النظام ولا يعبده ويراه الخط الأول و الثاني و الثالث للعمل و الإنجاز، و بعدها يلجأ لخط « أبي علي « الخاص الفريد الذي قلما يقف أمامه جدار أو حصن أو نظام.
إن سيرة أبي علي تنم عن شجاعة فائقة وتفكير خارج الصندوق. وقد ترى أيها القارئ الكريم بعض المسارعة في بعض قراراته. ولكن لا يقودك ذلك في أن تصمه بالعجلة، فهو حذر يفكر بصوت مسموع مع مرؤوسيه ومستشاريه (يسميهم زملاءه) ويتهادى بين تلاقح أفكارهم أمامه، قبل أن يقدم على القرار، وإذا اتخذ القرار يتابع تنفيذه بحزم وإصرار.
سوف تتعجب أخي القارئ الكريم من تجربة الشيخ عبدالله النعيم في شركة الغاز الأهلية التي أعاده ولي الأمر للوطن قبل أن ينهي دراسة الدكتوراة في إنجلترا، ليتعامل مع تحدياتها ( و الكل حينئذ لا يطبخ إلا على الغاز بلادنا غنية بالغاز) حيث لا يجد الناس الغاز و اسطواناته و ذلك لمدة شهرين امتد لعقدين من الزمن. أخذ الشيخ عبد الله بشركة الغاز مع فريق وطني وشركاء استراتيجيين من شركة محدودة القدرات روتينية العمل إلى شركة حيوية خدمية تتمتع بالاستجابة والربحية .. أني كنت أتمنى أن يكتب المزيد من التفاصيل عن تجاربه فيها، بل وأن يستكتب من عمل معه فيها لمزيد من التفاصيل لأن شركة الغاز الأهلية تمثل شركة خدمات يستنار بنجاحها.
ومثل رحلة شركة الغاز رحلة أمانة مدينة الرياض ونظافتها وأنظمة البناء فيها وإعادة تنظيمها وتقسيمها جغرافيا. أؤكد لك أخي القارئ أن رحلة العمل البلدي في الرياض التي مر بها الوطن وأهل الرياض، تغيرت بسبب ثقافة الناس ونظرتهم للبلديات والعمل البلدي. صار رئيس البلدية في أي مدينة أو بلدة محل احترام الأهالي ومتوقع منه الكثير على أرض الميدان في مجالات الحياة اليومية وجمال المدينة وراحة أهلها لأن سمو أمير الرياض أعطى البلدية دورها واحترمه ودعمه تنظيميا ونظاما ماديا و معنويا، و الأمين عبد لله النعيم كان رائدا في رسم الطريق وإنارته و تخطيطه وترصيفه.
فعلى مستوى قيادة الشيخ عبد الله أمانة مدينة الرياض حدث ولا حرج من أرض مساحتها ملايين الأمتار تقع في موقع جميل بكر في جنوب غرب الرياض أصبحت حي لبن الذي يقطنه الآن آلاف من الأسر التي تشكل قوة عاملة كبيرة في الرياض ومستهلكا أكبر، في بيوت بمواصفات جيدة وتخطيط جيد.
وهنا قصة أراضي الجامعات التي بطلها الملك فهد – رحمه الله – والشيخ عبد الله النعيم والشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي التي يرى الناس نتائجها أمامهم مفاخر إنسانية و معمارية و حضارية و بعضهم قد لا يدرك العمل الجاد و حسن النية و الطموح و الحرص الذي قاد إليها.
وأترك للقارئ الكريم محلات « القصاصيب « التي أريد لها أن تكون محلات عطور، وموضوع « جراد الزعير « ومصنع أذان المقاولين. وأترك للقارئ ليرى كيف يرضي الملوك السعوديون مرؤوسيهم من مواطنيهم الذين يكافحون تحت إمرتهم ويعملون تحت لوائهم.
أخيرا فإنه إذا كان من مأخذ على الكتاب فإنه قد ركز على النجاحات ولم يفصّل الإخفاقات التي سبقت النجاحات وأدت إليها. ولكن القارئ الحاذق الذي يعمل فكره ويرجع للمراجع يستطيع استقراء الإخفاقات والتحديات والصعوبات، بل والأخطاء بين السطور.
أخير أخي القارئ الكريم أعتذر عن الإطالة وأختصر كلامي في أني مقتنع قناعة راسخة، وأجزم أنك سوف تخلص إلى أن الشيخ عبد الله النعيم رائد فريد ومواطن حقيقي وإداري موهوب وشجاع وذكي ولمّاح. كل ذلك ستجده أخي القارئ في سيرته التي خدم تنظيمها وترتيبها الدكتور الحصيف إبراهيم التركي، وأنصح بأن تكون السير العامة وسيرة معالي الشيخ عبدا لله النعيم على قائمة أولويات القراءة ومحل حوار مع الأنداد، والأصحاب متع الله الشيخ عبد الله النعيم بالصحة والعافية، وأمد في عمره على الطاعة. و الحمد لله رب العالمين.