أحمد المغلوث
أكتب هنا عن تجربتي في عالم الفنون التشكيلية. وُلدت في مدينة المبرز، التي كانت في الماضي محاطة بسور طيني. وفي المرحلة الابتدائية، اكتشف مدرس الرسم موهبتي في الخط والرسم، وبالتالي كُلفتُ ضمن نشاط المدرسة اللا منهجي. بدأت المشاركة مع زميل كان في الصف الرابع اسمه «علي الفجري» رحمه الله، في رسم خلفيات المسرحيات أو النشاطات الثقافية، من إعداد اللوحات والجداريات، وكذلك تصميم صحف الحائط. وخلال هذه المرحلة الدراسية، كنت أشارك في كتابة بعض اللوحات التجارية لبعض المحلات.
وعلى هامش زيارة الملك سعود للأحساء، كُلفت بعمل لوحات ترحيبية بمناسبة الزيارة، ونفذت مع مدير المدرسة الابتدائية الأستاذ «إبراهيم القو» رحمه الله، قوسًا ترحيبيًا أمام المدرسة. وكُلفت من أسرتي بعمل قوس ترحيب على بُعد خطوات من محطة «شيشة المغلوث» الشهيرة بالمبرز، والتي كانت بجانب قصر صاهود التاريخي. وفي المرحلة المتوسطة، قمت بممارسة نفس النشاط من رسم وكتابة الصحف الحائطية. وبفضل الله، كنت عاشقًا للقراءة ومن هواة الرسم والتعارف. وبحكم أنني كنت أقتني المجلات التي يتم حجزها لي في أشهر مكتبة بالأحساء «مكتبة العاون الثقافي» بالهفوف، فكنت أتردد في نهاية كل أسبوع، حيث كُلفت بالتردد على مكتب يملكه ابن خالتي عبدالعزيز رحمه الله، الذي كان يقيم بالدمام، لتفقد المكتب.
وخلال عودتي من المكتبة، توجهت لمكتب ابن خالتي لأقوم بالمهمة التي كُلفت بها. وصادف أنني كنت أحمل كراسة رسم ترافقني دائمًا خلال ركوب سيارة الأجرة التي تنقلني من المبرز إلى الهفوف. وعندما كنت في المكتب، وضعت كيس المجلات، أما الكراسة فوضعتها على طاولة المكتب. لفتت الكراسة انتباه أحد الموظفين، وكان من أبناء اليمن، وبدون استئذان، راح يتصفح الكراسة. عندها سألني: «هل أنت رسام وخطاط؟». فأجبته: «نعم». فرد قائلاً: «صدقني يا ولدي أننا نبحث عن خطاط ورسام. لدينا أكثر من استوديو تصوير، نريد رسم جداريات كخلفيات للعملاء، وكذلك نريد عمل لوحات خارجية. فما رأيك أن تتعاون معنا، خاصة وأنك قريب للعم صاحب المكتب؟». فلم أتردد، ووافقت على الفور.
فرسمت جداريات لاستوديو «المصور سالم»، وكذلك لاستوديو الطليعة والروضة، والذي كان يحمل اسم الفندق الشهير الذي تقع تحته الاستوديوهات الثلاثة. وقام المصور سالم، بعدما انتهيت من تنفيذ هذه المهمة، بالتقاط صورة لي وأنا جالس أمام الجدارية. كان ذلك في منتصف الثمانينات الهجرية.
وقد بدأت أشارك في نشاطات رعاية الشباب من خلال انتسابي لنادي الفتح، حيث كانت تعرض بعض من لوحاتي في إحدى غرف النادي. إضافة إلى أنني كنت، بعدما انتهي من عمل لوحة ما، أقوم بتعليقها في مجلس بيت والدي، وكان المجلس أشبه بمعرض.
وفي عام 1391هـ، قرأت خبرًا عن استعداد الأحساء مبكرًا لقدوم جلالة الملك فيصل رحمه الله لافتتاح مشروع الري والصرف. فخطرت لي فكرة أن أقوم برسم جلالة الملك فيصل في لوحة. بادرت فورًا بالتوجه إلى مدينة الخبر لشراء بعض المستلزمات التي أحتاجها لرسم اللوحة من المكتبة العالمية، التي كانت أول مكتبة في الشرقية تبيع أدوات ومستلزمات الرسم. كان الموعد بعد أسبوعين، وواصلت العمل على اللوحة وخففت استخدام الزيت قدر المستطاع حتى تجف الألوان. وقبل ثلاثة أيام من الاحتفال الكبير، قمت بالتوجه باللوحة إلى مكتب وزارة الزراعة بعدما جعلتها داخل «جيب كبير» من القماش الأخضر. سعد كثيرًا مدير المكتب ووافق فورًا، وقال: «غدًا سوف تصلنا بطاقات الدعوة. عد إلى هنا لاستلام بطاقتك». ولم أصدق الخبر. وفي اليوم التالي، استلمت البطاقة المتميزة التي تحمل الشعار الرسمي.
وفي ليلة الافتتاح، كنت متوترًا قليلًا؛ ففي الغد سوف أتشرف بمقابلة الملك فيصل. المهم أنني جلست مبكرًا وجهزت نفسي وأخذت «بشت» والدي. كان موعد الحفل العاشرة صباحًا، فقررت أن أذهب قبل الموعد بساعة، خاصة وأن الحفل في «صويدره» بجانب الطريق العام للقرى الشرقية. استأجرت سيارة أجرة، ووضعت اللوحة بجانبي وتوجهت إلى منطقة الحفل في الهفوف آخر حي الصالحية. وحال وصولنا للطريق المؤدي إلى مقر الحفل، إذا برجال الأمن يوقفون السيارة ويمنعوننا من المرور. أخرجت بطاقة الدعوة، وترجلت من السيارة، وعرضت عليهم اللوحة، فابتسموا وهم يرددون: «موفق. موفق». وهكذا توجهت سيرًا على الأقدام. بعدما حاسبت صاحب السيارة، ولبست البشت، ووضعت اللوحة على رأسي، ومشيت ما لا يقل عن كيلومتر. كان الوقت صيفًا والجو حارًا، والعرق يتصبب من جبيني وداخل جسدي. تكررت مرات إيقافي والاستفسار عدة مرات، فكان على جانبي الطريق العديد من رجال الأمن. أخيرًا، وصلت إلى سرادق الاحتفال، كان كبيرًا جدًا ترفرف عليه العديد من رايات التوحيد وأقمشة ترحيبية كثيرة.
وقبل أن أدخل السرادق، وقد أمسك باللوحة، أوقفني أحد ضباط الحرس الملكي. أظهرت له البطاقة، وأخبرته بأنني أحمل هدية لمقام صاحب الجلالة، فقال: «خير إن شاء الله»، وأشار إلى أحد الكراسي بجانب عمود السرادق، وقال: «تفضل، استرح يا ولدي، سوف أستفسر من سمو الأمير تركي وأعود إليك». وكان سموه يجلس في مقدمة مقاعد الصف الأول، فاتجه إليه مستفسرًا من سموه، وكان الأمير تركي بن عبدالعزيز مساعدًا لشقيقه الأمير سلطان، وزير الدفاع والطيران رحمهما الله. وعاد لي الضابط طالبًا مني أن أحمل اللوحة وأعرضها على سموه. شعرت براحة وسعادة في ذات الوقت، وبسرعة سحبت اللوحة من داخل المحفظة القماشية وتقدمت إلى سموه، فرحب بي كثيرًا وأبدى إعجابه الكبير باللوحة، ثم عقب: «اللوحة ممتازة، ولكن تقديمها لابد من موافقة الأمير نواف. المهم يا ولدي استرح، بعد نصف ساعة أو أقل سيكون هنا». شكرته وعدت إلى مكاني. وما هي إلا دقائق حتى وصل موكب سمو الأمير نواف إلى مقر الحفل ودخل السرادق، فقام شقيقه تركي مرحبًا به. وما هي إلا لحظات، وإذا بسمو الأمير تركي يشير إليَّ أن أحضر إليهما حاملاً اللوحة. عرضتها على سمو الأمير نواف بن عبدالعزيز، وكان سموه رحمه الله نائبًا لشقيقه الأمير سلطان بن عبدالعزيز. المهم أنه أيضًا أعجب باللوحة كثيرًا وقال: «اللوحة مقبولة يا ولدي، لكن قرار تقديمها لدى معالي مدير عام المراسم أحمد بن عبدالوهاب، وسوف يحضر قبل وصول موكب سيدي جلالة الملك». شعرت باطمئنان كبير، وتمضي اللحظات والدقائق سريعًا. وصل معالي الأستاذ أحمد، مدير التشريفات الملكية. وبعد فترة قصيرة، ذهبت إليه وأنا أحمل اللوحة وكان يقف بجوار منصة الخطابة. فكان ودودًا ولطيفًا، شاهد اللوحة وسجل اسمي وقال: «انتبه، حال وصول موكب جلالة الملك، بسرعة أحضر إلى هنا وكن مستعدًا، سوف يعلن الأستاذ بدر كريم عن تقديمك للوحة». خلال الفترة التي كنت أنتظر الإشارة لذكر اسمي، كنت قلقًا نوعًا ما، حيث كان سرادق الحفل يعج بمئات الحضور من أصحاب السمو الملكي الأمراء والمعالي والفضيلة والأعيان.
- يتبع..