عبد الله سليمان الطليان
خلق الله البشر وجميع الكائنات على هذه الأرض وجعل لها مصيراً محتوماً وهو الموت، هذه الكلمة تثير الخوف في داخل كل نفس بشرية، ويكون لها عمق قوي في التفكير، تطغى في التأثير أحيانا فتجلب الهم والقلق والحزن، ولكن هناك تفاوت في هذا التأثير على كل نفس، ندرك جميعا أن هذه الدنيا زائلة فانية، وأن الموت قدر محتوم، ولكن يبقى هناك اختلاف في موقف الناس من الحياة والموت: فكان منهم من غلب عليه الهيام بالدنيا والتهالك عليها، وكان منهم من زهد فيها وانصرف عنها،كذلك كان هناك من يميل إلى التوسط والاعتدال بين الزهد والهيام.
يقول عباس العقاد (رحمه الله):
زاهد الهند نعى الدنيا وصام
أنا أنعاها ولكن لا أصوم
طامع الغرب رعى الدنيا وهام
أنا أرعاها، ولكن لا أهيم
بين هذين لنا حد قوام
وليلم من كل حزبٍ من يلوم
كان الشاعر أبو العلاء المعرِّى يرى أن الحياة ليس فيها سوى العذاب والشقاء بعد أن جرب مراحلها وهو في شوق إلى أصدقائه وأقربائه الذين سبقوه إلى الموت، وإذا كان اللقاء بهم قريبا فإن الموت طيب المذاق:
وقد بلونا العيش أطواره
فما وجدنا فيه غير الشقاء
تقدم الناس فيا شوقنا
إلى اتباع الأهل والأصدقاء
ما أطيب الموت لشرابه
إن صح للأموات ولك الشفاء
وكان أبو العلاء يرى أن العذاب قضاء مقدور على الإنسان حتى نهاية حياته. وأهل الميت جديرون بالتهنئة عند وفاته على ما كسبوه من إرثه - أما الميت فقد انتهى من عذابه وآلامه وبلغ راحته:
قضى الله أن الآدمي معذب
إلى أن يقول العالمون قضى
فهنئ ولاة الميت يوم رحيله
أصابوا تراثا واستراح الذي مضى
يقول الأديب نجيب محفوظ: الزمن بالنسبة للفرد هو هادم لذاته ومفنى شبابه وصحته والقاضي على أصدقائه وأحبائه والموت هو النهاية.. هو الفناء.. ولقد خرجت بدرس من تأملي للزمن والموت هو أن أنظر إليهما بعين الإنسان الاجتماعي لا الفردي.. هما أمام الفرد مصيبة.. لكنهما أمام الاجتماعي وهم، أو لا شيء ففى أى لحظة ستجد مجتمعا واسعا ومركزا مشعا بالحضارة، ماذا يفعل الموت بالمجتمع البشرى لا شيء.. ففي أية لحظة ستجد مجتمعا يعج بالملايين.
ويقول : .. الموت كان دائماً يغزو خيالي بإلحاح وإثارة، مجموعة دنيا الله تتميز فيها فكرة الموت بطابع انتصار الإنسان على الموت.
إنني أجد فرقا بين مواجهة الموت بالبكاء كأن الدنيا تزلزلت، وبين مواجهته بالدهشة والتساؤل والحيرة - الموت فيه عنصر محير ولا معقول.. وهذا العنصر يتضح بشكل حاسم في الموت الجزافي.
أما توفيق الحكيم فيقول: هل يقدر لنا أن نرى أحباءنا مرة أخرى بعد موتهم؟... كان أوليفر لودج العالم الفيزيائي المعروف منذ القرن الماضي بأبحاثه في الضوء والكهرباء والإلكترونيات والرياضيات التطبيقية والفلسفة الطبيعية قد انتهى في أواخر حياته إلى الاعتقاد الراسخ في إمكان الاتصال بالموتى، ومهما يتعمق العالم في علمه فإن اكتشافاته على علو قيمتها وسمو غايتها وقوة دفعها لتقدم الإنسان إنما تتم بالفحص والفهم عن طريق ما تدركه وتمارسه حواسنا:
ولا شيء غير حواسنا، هذه الحواس التي تقرر لنا الموجود وغير الموجود.. وماذا تكون حواسنا الضعيفة القاصرة في هذا الكون الهائل غير المتناهي؟ هذه الحواس التي تعجز عن إدراك ما خرج عن نطاقها المحدود؛ لذلك لجأ الإنسان إلى شيء يستطيع أن يجيب له عن الأسئلة التي ليس لها جواب عند العالم: إنه الدين..
إذا قلت لنا أيها العقل البشرى ويا أيها العلم الوضعي إن اجتماعنا مرة أخرى مع عزيزنا الذي مات هو أمر مستحيل عقلا فإن كلمتك لن تكون الأخيرة ولن تدفعنا إلى الضغوط.. فإن في قدر الله وتقديره ما يتجاوز أى فكر لأي كائن مهما يبلغ عقله وعلمه في أي جرم من أجرام الكون اللانهائي.
أما الموت فقد كان العقاد يكرهه ولا يخشاه.. ويقول إذا فاجأني الموت في وقت من الأوقات فإنني أصافحه ولا أخافه بقدر ما أخاف المرض فالمرض الم مذل ولا يحتمل، لكن الموت ينهى كل شيء!
نعم، إن الخوف من الموت غريزة حية لا عيب فيها، وإنما العيب أن يتغلب هذا الخوف علينا، ولا تتغلب عليه كلما وجب أن تغلبه في موقف الصراع بين الغريزة والضمير، فإن الخضوع له في هذه الحالة ضعف والضعف شر من الموت.
وكتب العقاد عن خوف الموت وبلاء الموت:
خوف الموت كلمة مرادفة لخوف الحياة، وكلاهما من شيمة الضعفاء لأن الأقوياء لا يخافون الموت ولا يخافون الحياة، ولكنهم يكرهون الموت كما يكرهون عدوا، ويحبون الحياة كما يحبون عشيقة، وليس من الضروري حين يكره المرء عدوا أن يخافه، وإنما خوف الأعداء دأب الضعفاء، وإذا خاف المرء الموت فذاك ضعفه، والضعيف يخاف الوجود كما يخاف الفناء لأنه لا يقوى على هذا ولا ذاك.
الموت أعم المصايب وقوعاً، ولا يزال أشدها إيلاما وأقلها قبولا للعزاء على أن ذلك لا يفيد أنه غير مألوف، ولكنه يدل على أن الإنسان لا يجزع لمصاب غيره كما يجزع المصاب نفسه.