غالية بنت محمد عقاب المطيري
فكر..
أخذت بتهجي هذه الكلمة مراراً وتكراراً وأتأملها وقادني تأملي للبحث عن معناها في معاجم اللغة وبطون الكتب وبعض الدراسات النفسية، وبعد القراءة والتأمل أظن أني سأكتب بشكل مختلف.
ذكر الدكتور أيسر الآلوسي أن الفكر في لغة: بكسر الفاء أو فتحها هو إعمال النظر في الشيء، أو إعمال الخاطر في الشيء وهو عقل، وقيل: هو تردد القلب في الشيء، يقال تفكر إذا ردد قلبه معتبرا، والجمع أفكار، والتفكر هو التأمل.. أما الفكر في الاصطلاح فله معنيان، أحدهما خاص والثاني عام. فالمعنى الخاص: هو إعمال العقل في الأشياء للوصول إلى معرفتها. والمعنى العام: يطلق على كل ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية ومناط الفكر هو العقل، والعقل: (هو قوة للنفس بها تستعد للعلوم والإدراكات)، وعُرف بأنه: (جوهر تدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات المشاهدة)، والتفكير: (هو نقل الحس بالواقع، إلى الدماغ بواسطة الحواس، ووجود معلومات سابقة يُفسر بواسطتها هذا الواقع).
والحقيقة أن الأفكار قد تكون مصدر قوة للمجتمعات، أو نقطة ضعف يستغلها أعداؤهم في القضاء عليهم، وكذلك أفكار الإنسان وفكره قد يكون مفتاح سعادته أو شقائه.
بل إنّا لا نبالغ إذا قلنا إن أساس الأمراض النفسية ومنشأُها من الفكر بل إن الجرائم أيضا سببها فكرة، وفي الجانب الآخر تشكل الأفكار سبب نجاح الفرد وتميزه، فكيف يمكن للأفكار أن تفعل كل ذلك؟!
الإنسان مطالب بتفعيل الفكر والإبحار في بحره العميق الهادئ سريع التقلب والانقلاب بطريقة متزنة ففكرة واحدة قد تقلب حياتك.
فالاكتئاب مثلا قد تُسَبِبهُ فكرة أن الحياة مادية بحتة تتطورهذه الفكرة لتصبح شعورا بعدم الحب للحياة والرغبة في العزلة؛ لأن تلك الفكرة جعلت الإنسان يؤمن بعدم جدوى العطاء والحب في العلاقات بوجه عام فالنكران من الجميع والشعور بالخذلان وعدم جدوى العلاقات كان منشأها من الإمعان في بحر فكرة أن الحياة مادية فقط.
بينما هذه الفكرة قد تكون سبب نجاح وتميز إنسان آخر عندما أبحر فيها كيف ذلك؟
لأن فكرة مادية الحياة جعلته يقلل من سقف طموحاته في العلاقات ويحدد الهدف من كل علاقة، وجعلته يميز بين الحقوق والواجبات ومعنى أن سعادة اللحظة التي يعيشها لن تتكرر، لذلك قرر أن يعيش اللحظة دون النظر إلى ما بعدها، وهذا قلل من القلق من الغد وعدم الأسف على الأمس، وكل هذا جعله يشعر بالسلام الداخلي الذي بالتالي أتاح له فرصة تحديد الأولويات وتحقيق أكبر قدر من النجاح، وقس على ذلك بقية أو أغلب الأفكار.
الأمر الآخر هو أن البعض يظن أن القوة الخارقة للتغيير هي السلطة الدينية أو الدنيوية ولكن الحقيقة أن ما يعطي أي سلطة القوة للتغيير هو الفكر عندما تريد أن تغير أمرا ما فعليك بالفكر.
لذلك من أكبر الأخطاء التي يقع فيها المُربُّون أن يحجبوا الأفكار ويمنعون الأبناء من الحديث عن أفكارهم بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع تلك الأفكار، إذا أردت أن تُحدث تغييرا حقيقيا ثابتا وراسخا فابدأ بالأفكار.
على الأمهات والآباء وكل مُربٍّ أن يستمعوا إلى أفكار أبنائهم وبناتهم.
مساحة الحرية هنا ليست ترفا بل هو أمر واجب.
أيّن كانت تلك الأفكار أو عدم قبولك لها، ناقشها معهم، حدثهم، ولا تعاقبهم، أو تخيفهم لو أفشوا لك بعضا مما يجول في أفكارهم.
إن من يحجب الأفكار ويمنع التحدث عن أي فكرة يراها تخالف ما يريده فإنه هنا على حافة السقوط والاضمحلال لأن أفكاره لن تتجاوز حدود قناعاته.
بينما لو ناقش أفكارهم وصَحَّحَ الخطأ منها بالحجة والبرهان وعزز الجيد منها أيضا بالحجة والبرهان، سيُكتب له الخلود خلود الحياة.
ولِتبقى هذه الآية ملجأ لنا عند تزاحم الأفكار وضلال الفكر..
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.