عبدالرحمن الحبيب
«أعتقد اعتقاداً راسخاً أن الأعوام المائة والأربعين من عام 1870 إلى عام 2010 من القرن العشرين الطويل كانت الأكثر أهمية بين كل قرون البشرية». هذا ما يزعمه كتاب «الانزلاق نحو اليوتوبيا: تاريخ اقتصادي للقرن العشرين» (Slouching Towards Utopia: An Economic History of the Twentieth Century,)، في عمل ضخم جديد ألفه براد ديلونج أستاذ جامعة كاليفورنيا في بيركلي؛ وهو ادعاء جريء، حيث تمثل هذه الحقبة نسبة ضئيلة من التاريخ البشري. الكتاب يقدم سرداً فخماً للقرن الذي جعلنا أكثر ثراءً من أي وقت مضى، لكنه تركنا غير راضين كما تقول نيويورك تايمز، في حين عبَّر عنه بول كروجمان الحاصل على جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية بأنه «تاريخ مهيب»!
يطرح الكتاب أنه قبل عام 1870، كانت البشرية تعيش في فقر مدقع وغالبية البشر يعيشون على الكفاف، وبعد زحف بطيء للاختراع يقابله نمو سكاني؛ جاء التحول الكبير: انطلق الاختراع إلى الأمام، مما أدى إلى مضاعفة قدراتنا التكنولوجية في كل جيل وتحويل متكرر للاقتصاد؛ ففيما كان أسلافنا يتوقعون أننا سنستخدم مثل هذه القوى لبناء اليوتوبيا (المثاليات الخيالية)، لكن الأمر لم يكن كذلك! إذ عندما انتهت الفترة 1870 - 2010، شهد العالم بدلاً من ذلك الانحباس الحراري العالمي؛ والكساد الاقتصادي، وعدم اليقين، وعدم المساواة؛ ورفض واسع النطاق للوضع الراهن.
إنه الانزلاق أو الانحدار نحو اليوتوبيا وليس تحقيق اليوتوبيا كما عنونه المؤلف، فالتغيير السريع غير المسبوق في حياة سكان الدول الغنية جلب معه عدم استقرار سياسي عميق وصراعات وحروب، ولعل الأسوأ حالاً هم سكان الجنوب العالمي، والمجتمعات المضطهدة مثل النساء والأقليات العرقية في الشمال العالمي، الذين حرموا من قدر كبير من فوائد الثورات الاقتصادية في العالم في حين أنهم يعانون من الجزء الأكبر من الضرر الناجم عن الثورات السياسية والاجتماعية التي أعقبت ذلك.
حسب الكتاب كان التقدم التكنولوجي قبل عام 1870 بطيئاً، إن كان قد حصل على تقدم تقني يُذكر، لكنه تسارع بشكل كبير بعد ذلك حين كان العامل فيه غير الماهر الذي يعيش في لندن قادراً على توفير خمسة آلاف سعرة حرارية لنفسه ولأسرته من راتبه اليومي، وهذا أكثر من ثلاثة آلاف سعرة حرارية كان بوسعه توفيرها في عام 1600، بزيادة 66 % وهو تقدم بلا شك؛ أما بحلول عام 2010، فقد أصبح العامل نفسه قادراً على توفير 2.4 مليون سعر حراري في اليوم، بزيادة تقارب خمسمائة ضعف على سبيل المقارنة النظرية.
ديلان ماثيوز أجرى حواراً مع المؤلف بدأه بسؤال: تزعم أن الفترة من 1870 إلى 2010 كانت «السنوات الأكثر أهمية في كل قرون البشرية»، ما هي حجتك؟ ديلونج: يبدو أننا شهدنا قدراً من التغيير والتقدم التكنولوجي بين عام 1870 واليوم يعادل ما شهدناه بين عام 6000 قبل الميلاد وعام 1870 بعد الميلاد؛ فلقد قمنا بتعبئة ما يقرب من ثمانية آلاف عام من التغييرات في الأجهزة التكنولوجية الأساسية للمجتمع، الأمر الذي تطلب تغييرات في الشفرة الاجتماعية الجارية فوق هذه الأجهزة؛ محاولة تعبئة ما يعادل ثمانية آلاف عام من التغييرات قبل ذلك في 150 عاماً سوف تنتج قدراً هائلاً من التاريخ.
قبل عام 1870، كان معظم التاريخ يتعلق بكيفية إدارة النخب لآليات القوة والاحتيال والهيمنة والاستخراج ضد الفلاحين الفقراء حتى يتمكنوا على الأقل من الحصول على ما يكفيهم، وبحيث يكون أطفالهم أقصر منا بوصتين فقط، بدلاً من خمسة أو ستة بوصات مثل الفلاحين. إن الأمر يتعلق بكيفية دفع النخب بعضها بعضا بعيداً عن الطريق بينما يأكلون من المعلف؛ ويتعلق الأمر أيضاً بالاستخدام الذي يقومون به لثرواتهم لأغراض الخير والشر، والحضارة والتدمير.
ماثيوز: يبدو أنك على أرض صلبة عندما تزعم أن شيئاً جذرياً قد تغير مما مكن البشر من أن يصبحوا أكثر ثراءً بشكل كبير على مدى السنوات الثلاثمائة الماضية؛ ويتفق معك في ذلك تقريباً كل مؤرخ اقتصادي، لكن العديد من الناس يبدؤون القصة في القرن الثامن عشر، مع تطوير المحرك البخاري وبداية الثورة الصناعية في بريطانيا، وأنت تبدأ القصة في عام 1870، بعد وقت طويل من بدء هذه العملية.. لماذا تبدأ القصة في وقت لاحق بالنسبة لك؟
ديلونج: إنك تحتاج إلى محرك بخاري إذا كنت تريد الحفر حتى عمق عشرة أقدام لاستخراج الفحم، ثم في حوالي عام 1770، بلغ المحرك البخاري وآلات النسيج الكتلة الحرجة وبدأت الثورة الصناعية، والتي عادة ما يتم اعتبارها مفصل التاريخ الاقتصادي، على الرغم من أن بعض الناس يدفعونها إلى الوراء.. ولكن إذا نظرت إلى جميع أنحاء العالم وأخذت مؤشري للتقدم التكنولوجي، فسوف تجد أنه (ينمو بنسبة) أقل من نصف في المائة سنويًا من عام 1770 إلى عام 1870 .. لقد لفت انتباهي سطر صادفته من نسخة عام 1871 من كتاب جون ستيوارت ميل «مبادئ الاقتصاد السياسي»: «حتى الآن من المشكوك فيه ما إذا كانت كل الاختراعات الميكانيكية التي تم إجراؤها قد خففت من عبء يوم أي إنسان».