علي الخزيم
= قالت العرب في أمثالها: (تَرَى الفُتيانَ كالنَّخل ومَا يُدريكَ مَا الدَّخْل)! والدّخل: العيب الباطن، ويستحضرون هذا القول حين يرون شاباً حسن المنظر يتجمّل ولا يُرجى منه خير، وتقول العامة (بَو) كلمة يصفون بها الرجل الأحمق الذي قد يعجبك مظهره بينما مخبره دون ذلك؛ ومالكي ورعاة الإبل يعرفونها جيداً إذ إنها تعني جِلد حوار الناقة وقد حُنِّط وحُشي وكأنه حوار سليم يخدعون به الناقة التي فقدت حوارها بعد الولادة، أو إنه أبعد عنها لسبب ما.
= وأكثر ما يؤلم العربي ويزعجه ويُربك مواقفه بين أفراد مجتمعه وقبيلته أن يأتي ابنه على تلك الصفة من المَيل للتجمل والتعلق بالمظاهر الزائفة، والانصراف عن مواطن الرجولة والمروءة، فالنَّجابة عند العربي أن يكون أبناؤه من أجود الفرسان والشعراء؛ تُزينهم خصال الكرم والشجاعة والنباهة والدهاء وما يماثلها مِمَّا يُميز العربي بأصالته وعنفوانه، وأن يكون كما ينبغي له من الاستعداد والكمال لمقارعة الخصوم؛ ولباقة الحديث وبشاشة الوجه لاستقبال الضيف، وقبل كل هذا مدافع عن المحارم والديار.
= وكمثال فقد كان المُهلّب بن أبي صفرة يوصي أبناءه بهذا؛ فمِمَّا قال:(ولتكن فعالكم أفضل من أقوالكم؛ فإني أحب للرجل أن يكون لعمله فضلٌ على لسانه، واتقوا الجواب وزلّة اللسان، واصطنعوا العُرْف؛ فإن الرجل من العرب تعده العِدَة فيموت دونك؛ فكيف الصنيعة عنده)؟!
ومثله ما تُوصِي به العامة أنجالهم بالبعد عن كثرة ارتياد مجالس النساء من الأقارب خلال الاجتماعات والمناسبات العائلية، ومما قالوا:(لا يزال الرجل رفيعًا في نفسه؛ حتى يَتَسقّط أخبار النساء ويخوض في شأنهن فيُسفل).
= والعربي بطبعه يأنف من مُقارفة خوارم المروءة؛ إذ إنها جِماع مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، فمن يفوته جانب من هذه المكارم يفوته جانب من العناصر التي تتكون منها المروءة أو منظومة مكارم الأخلاق، وينسب لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قوله: (ما حمل الرِّجال حِملاً أَثقل من المروءة)، وعبد قيس بن خُفاف من شعراء ما قبل الإسلام كان يوصي ابنه بالمروءة والتَّجمل بالأخلاق بقوله:
وَإِذا تَشاجَرَ في فُؤادِكَ مَرَّةً
أَمرانِ فَاِعمِد لِلأَعَفِّ الأَجمَلِ
= والعرب وهم أهل (الشِّيَم والشَّمَم) قد بلغوا شأواً بعيداً بمنظومة مكارم الأخلاق والمروءة حتى أنهم يحتارون بتحديد من يفاخرون به حين التَّمثّل باستحضار أسماء اشتهرت ـ بينهم وقبلهم ـ بالصفات العريقة المُجمّلة لصاحبها؛ لكنهم لم يصفوا أحداً بأنه اعقل الناس!
وحول المعنى قال النُّويري في نهاية الأَرَب في فنون الأدب: (ومن العجب أنَّ العرب تمثَّلت في جميع الخِصال بأقوام جعلوهم أعلاماً فيها فضربوا بها المثل إذا أرادوا المبالغة، فقالوا: أحْلَمُ من الأحنف، وأجود من حاتم، وأخْطَبُ من سَحْبان، ولم يقولوا: أعقل من فلان؛ فلعلَّهم لم يستكملوا عقل أحد)!
= ومِمَّا يشار إليه أن كمال العقل وقوة الشكيمة لا تتنافى مع لطف التعامل ـ مع التَّبسّم بمكانه ومناسبته ـ لما له من أثر إيجابي هام، ومن ذلكم قول الشاعر صالح عبد القدوس:
لَو سارَ ألف مُدجَج في حاجَة
لَم يَقضِها إِلّا الَّذي يَترفق