عبد الله سليمان الطليان
هناك كتاب في العصر الحديث قام بتأليفه طائفة من المتخصصين في الطب الشرعي وطب الاطفال والطب النفسي والدراسات الدينية والصحافة والابحاث النفسية على رأس هؤلاء المؤرخ الانجليزي ارنولد توينبى عنوانه (الإنسان وهموم الموت) الذي سوف نكتفي بطرح رأيه فقط حول الموت باختيار واختصار.
حيث يقول في منتصف الحياة، نحن نواجه الموت هناك احتمال دائم منذ لحظة الميلاد في موت الإنسان في أية لحظة، وسوف يصبح هذا الاحتمال حقيقة محتومة ناجزة في النهاية آجلا أم عاجلا وينبغي على كل كائن بشري من الناحية المثالية أن يعيش كل لحظة تنقضي من حياته، وكأنما ستكون اللحظة التالية آخر لحظاته، ويجب أن يستطيع الحياة على توقع دائم للموت الفوري، وأن يعيش على هذا النحو في حالة السكينة، لا في حالة مرضية لمن هذا من باب طلب الكثير جدا من أي إنسان وأنا لم أقترب شخصيا قط من الارتفاع إلى هذا المستوى الروحي، إلا أني أعرف بعض الناس الذين كانوا ورعين وكانوا في الوقت نفسه شجعانا أقوياء، وقد نجحوا في نظري في الحياة دائما على مستوى لا يقل كثيراً من المستوى المثالي، واستطاعوا الارتفاع إلى المستوى المثالي في مناسبات فائقة لكني أشك في قدرتهم على الحياة في هذه المستوى الروحي الأعلى أكثر من فترات متقطعة، وإن كان إنجازهم يدعو إلى الإعجاب، والذي يمكن قوله بالتأكيد هو أنه كلما اقترب الإنسان من تحقيق هذه الحالة المثالية للقلب والعقل كلما كان هو أو هي أفضل وأسعد.
إن الحياة على توقع دائم للموت الفوري ليست بالطبع غاية في ذاتها، والسبب الذي يجعل الإنسان أفضل وأسعد ما دام يستطيع الحياة على هذا النحو هو أنه أحسن استعدادا للمواجهة مع الموت حتى ذلك المدى، إذا غلبه الموت فجأة، وهو في حالة الرحمة وهي في أحسن الحالات غير كامنة، وهي التي يرغب كل إنسان أن يموت فيها، مهما تكن تخميناته عن العاقبة.
وقد لوحظ من قبل أن تخمينات الناس مختلفة في هذه المسألة، يظن بعض الناس أن عاقبة الموت الفناء، ويظن آخرون أن العاقبة هي الاتحاد من جديد مع الحقيقة الروحية النهائية من وراء الكون، والتي خرج منها الروح الإنساني وأكد ذاته الشخصية المستقلة في مواجهتها، وهو تبعا لهذه النظرة سريع الزوال بالتأكيد وربما كان وهما بينما يظن آخرون مرة أخرى أن عاقبة الموت هي الخلود إن العقائد تختلف اختلافا واسعا، لكن الذين يؤمنون بها يشتركون في رغبة واحدة، إننا نرغب جميعا عند لحظة الخروج من هذه الحياة أن تحصل على شهادة بالسلامة الروحية على قدر ما يمكن أن يحوزه الإنسان.
وإذا اعتبرنا هذه الرغبة بصورة جادة فإنها تدفعنا إلى الحفاظ على حالتنا الروحية تحت المراجعة بصورة دائمة.
إننا جميعا في الأوقات كلها نرتكب كل أنواع الخطايا، ونحن في أغلب الأحيان لا نتذكر أكثر هذه الخطايا. ومن الممارسة الطبيبة أن نتذكر - بصورة متكررة - أغلب ما يمكن تذكره من خطايانا، لكن كل واحد منا أكثر حساسية تجاه بعض خطاياه من حساسيته نحو الخطايا الأخرى.
وأنا شخصيا ربما تجاوزت خطايا تخصني وهي تكون أشنع، وأجد نفسي حساسا على نحو يقلقني تجاه الشعور بأني غير كريم في العطاء. أو تجاه ضعف الإرادة، أو العدوان، أو الضغينة لرفيق في الإنسانية، وما دمت أشعر بالعداء نحو أي إنسان فإني أحس بالضيق، وإذا لم أتخلص من عدائي سلفا فإني أحاول تطهير نفسي منه عند الذهاب إلى الفراش، تحسبا لاحتمال الموت في أثناء الليل، وأنا لا أزال ملوثا به، ولست من المؤمنين بالخلود الشخصي، ولست أعتقد بأن الحساب يعقب الموت، ومع ذلك فأنا أرغب في التحرر من هذه الخطيئة قدر إمكاني، ومن باقي خطاياي كذلك بالطبع عندما تستولى علي لحظة الموت .
هناك ما يكون فيها الموت قبل الأوان مقبولا، وهي الحالات التي يتحمل فيها الإنسان المخاطرة أو المعاناة باختياره من أجل منفعة الناس الآخرين من الرفاق، أو الجنس البشرى بصفة عامة، إن الموت الاختياري قبل الأوان في الحرب صورة من التضحية البطولية بالنفس التي كانت أكثر شيوعا، والتي لاقت أشد الإعجاب حماسة، وهي مع ذلك أشد صور البطولة تذبذبا أيضا، حيث إن الإنسان الذي يقتل في الحرب يموت قبل الأوان وهو يحاول أن يقتل قبل الأول بعض رفاقه من الجنس البشري وليس هناك ما يدعو إلى الارتياب في بطولة من يموت قبل الأوان، وهو أو هي يضحى بحياته أو حياتها في محاولة لإنقاذ رفيق من البشر من لقاء الموت في الغرق أو الحريق مثلا، ونحن نستطيع أن نقبل أيضا، ونحن نتأسى، موت الرواد والمخترعين قبل الأوان الذين خاطروا عمدا بحياتهم في سبيل أن يجعلوا الحياة أفضل للجنس البشرى بصفة عامة. إن كثيرين من الناس ضحوا بحياتهم قبل الأوان من أجل منفعة الجنس البشري بإجراء التجارب الجريئة الخطيرة.
ماذا نقول عن الموت قبل الأوان الروح في الجسم البشري الذي لا يزال حيا من الناحية المادية، لقد ألفي هذا النوع من الموت قبل الأوان أيضا وهو الموت في أثناء الحياة بسبب الجنون وخرف الشيخوخة وقد كنت قريبا جدا من مكان إنسان عاش من الناحية المادية حتى بلغ عمرا متقدما أكبر مما وصلت إليه الآن، وظل يعيش أكثر من ثلاثين عاما - وهو نحو ثلاثة أجزاء من ثمانية أجزاء من مدى حياته المادية كلها - بعد أن عانى من موت الروح، إن مشهد الجنون والخرف روعني دائما أكثر من مشاهدة الموت الجسدي أو السماع به لكن هناك جانبين في هذا الموقف، هناك جانب الضحية، وكذلك جانب المشاهد، والذي يكثر المشاهد قد يخفف من الضحية.
إذا كان الإنسان يحب حقا أحد رفاقه من البشر فعليه أن يرغب في أقل قدر ممكن من الألم يعانيه أو تعانيه عند الموت، وأن يتحمل الإنسان أقصى ما يستطيع منه ينبغي أن يرغب الإنسان في هذا، وربما استطاع النجاح في رغبته بعقله نفسه. ولكن هل يستطيع الإنسان أن يرغب فيه حقا بقلبه ؟ هل يتطلع الإنسان حقا إلى أن يكون هو الباقي عندما يحين الأوان وينهى الموت مشاركة تكون أغلى قيمة من حياة الإنسان الخاصة، وهى مشاركة تكون حياة الإنسان عبئا لا نعمة - من دونها . هل يمكن للحب أن يرفع الطبيعة البشرية إلى هذا المستوى السامي من انعدام الأنانية؟
اخيراً: يقول الله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).