عبدالوهاب الفايز
لماذا الحديث اليوم عن هذا الموضوع بالتحديد: مياه الشرب المعبأة في البلاستيك؟
الذي جرنا بقوة اليه هو تصاعد القلق بين المستهلكين نتيجة التوسع في (الإفتاء الصحي)، فوسائل التواصل الاجتماعي أوجدت الكسب المالي السريع عبر تضخيم الحساب بالمتابعين وبالتالي سهلت الإفتاء في كل شيء! (ولعلنا نبادر إلى ضبط الفتوى الصحية كما نجحنا في ضبطها في الأمور الدينية، فالحزم في تقنين الفتاوى وربطها بالجهات المختصة الاعتبارية التي يقوم عليها العلماء والفقهاء، حمانا من حالة الانفلات التي جلبت لنا المشاكل الكبرى).
اليوم تتعدد مصادر المعلومات والآراء التي تتناول أمور مياه الشرب المعبأة خصوصاً بعد ان أصبحت مصدراً لنصف استهلاك الأسر في السعودية (50 %)، تليها مياه الشبكة العامة بحدود 28 %، ثم مياه الصهاريج بنحو 21 %، وهذه الأرقام قبل عامين، وبالتأكيد هي أكثر الآن.
الغريب توسع الاستهلاك للمياه المعبأة رغم ان المملكة في التقييم العالمي، تأتي ضمن الدول الآمنة في الشرب من مياه الصنبور، والمختصون بالصحة العامة يحثون المستهلكين على استخدامها كمصدر رئيسي للشرب وللطبخ، وهذا له أثره في توفير النفقات المالية للأسرة.
والاقبال الواسع على المياه المعبأة جعل السلطات الصحية الاقليمية والدولية تدعو المستهلكين بشكل مستمر إلى التعامل بحذر مع ما يطرح عن المياه. وسائل التواصل الاجتماعي دخلت بقوة في هذا المجال فأصبحت مرتعا خصبًا لتسويق منتجات المياه المعبأة، وطبيعي ان يتصارع المستثمرون على الحصص السوقية، وطبيعي وجود مستهلكين يهتمون بالسعر أكثر من الجودة، فهذه تتيح الثغرات للمنتجات الرديئة وربما المقلدة والمغشوشة لتنافس بقوة. والأمر المزعج هو ضعف جوانب سلسلة الامداد سواء في طُرق التخزين السيئة أو في النقل، وفي منافذ تجارة التجزئة التي لا تهتم بالمتطلبات الاساسية لحفظ المنتج من التعرض للحرارة ومن أشعة الشمس التي تؤدي إلى تحلل البلاستيك.
مجلس الصحة الخليجي يتولى الرد والتوضيح حول بعض من المفاهيم الخاطئة التي تدور حول مياه الشرب المعبأة. في أحد توضيحاته أورد ان (العلب البلاستيكية تمر بطرق معالجة لتُصبح آمنة، وصالحة للاستعمال، والشرب. ولكن، هل تُوجد حالات يكون فيها شرب الماء من العلب البلاستيكية أمرًا مضرًا للصحة؟ الإجابة هي: نعم. قد يؤدّي تخزين العلب البلاستيكية لفترة طويلة، مع تعرّضها لأشعة الشمس، والحرارة، إلى التلوّث، وتشكلّ بيئات للبكتيريا، ويجعلها ذلك غير آمنة، وغير صالحة للشرب. ولذلك، يُعتبر البلاستيك مضرًا عند تعرّضه للحرارة، وأشعة الشمس، وقد يتسبب في تغيّر الطعم، وترسّب بعض الميكروبات في عبوة المياه).
أيضا منظمة الصحة العالمية (أغسطس 2019) ذكرت ان جزيئات البلاستيك الموجودة في مياه الشرب تمثل خطرا «محدودا» على صحة الإنسان، ولكنها دعت إلى المزيد من الأبحاث لطمأنة المستهلكين. ايضا الهيئة العامة للغذاء والدواء السعودية تتدخل دوما للرد على ما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي بخصوص وجود فوائد أو أضرار صحية للصوديوم والرقم الهيدروجيني في مياه الشرب المعبأة، وتتدخل لتوضيح ما يثار حول مادة الفلورايد والاثار التي تتركها على الأسنان. فهذه المادة لها تأثير إيجابي في الوقاية من تسوس الأسنان، وهذا مثبت بالدراسات والأبحاث الدولية في هذا المجال. وهناك موضوعات أخرى تربك المستهلكين.
بعد أزمة كورونا تطورت بشكل كبير تجارة التجزئة في الأطعمة والمشروبات.. وهذه أطلقت موجة ضخمة للاعتماد على الطعام الذي يتم اعداده خارج البيوت، وظهور وتطور هذا السلوك السلبي جلب معه الاعتماد الواسع على منتجات التغليف بكل أنواعها ويتقدمها البلاستيك.
الخبراء والمسؤولون في المنظمات الدولية المعنية بالصحة والبيئة يطالبون الحكومات بضرورة التدخل لسنّ السياسات التي تقلل من مخاطر استخدام البلاستيك في تغليف الأطعمة، او في مياه الشرب المعبأة في العلب البلاستيكية خصوصاً مع توسع الاستثمار في الصناعة وتنامي الاستهلاك. يقدر حجم قطاع المياه المعبأة في المملكة بحدود 35,5 مليار ريال سنويا، وحجم الاستهلاك للمياه المعبأة يتجاوز 7 مليارات لتر سنويا. والسوق ينمو بمعدل سنوي مركب بحدود 9 % خلال الفتر (2024-2029). وعدد مصانع المياه المرخصة في السعودية حتى تاريخ أغسطس 2023 وصل إلى 214 مصنعا.
عالميا، تشهد السوق المعبأة للمياه نموًّا سريعًا، فقد استهلكت ما يقرب من 600 مليون أسرة المياه المعبأة في عام 2022. كذلك يتزايد استهلاك المياه المعبأة بمعدل 5 % سنويا، ومن المتوقع أن يبلغ حجم الاستهلاك نحو 515 مليار لتر بحلول عام 2027. ويعزز هذه الاتجاهات للنمو التصور لدى كثير من المستهلكين أن المياه المعبأة هي بديل أكثر أمانًا، وتحتوي على كمية أقل من الملوثات مقارنة بمياه الصنبور، وهو ما تنفيه جزئيا عدد من الدراسات، فعبوات المياه المعبأة في زجاجات بلاستيكية يمكن أن تكون أيضًا مصدرًا محتملًا للتلوث.
أخبار الأبحاث حول سلامة مياه الشرب البلاستيكية تتواصل بشكل أسبوعي تقريبا، وأغلب النتائج والتوصيات المنشورة تضيف إلى مجموعة متزايدة من الأدلة على أن المياه المعبأة ليست خالية من تلوث جزيئات البلاستيك التي ثبت ضررها على الصحة. وتركز الدراسات المقارنة على معرفة الفرق بين المياه المعبأة ومياه الشرب من الصنبور، بالذات في الدول التي لديها بنية اساسية وشبكات نقل متطور ة وآمنة لإمداد مياه الشرب، كما هو الحال في المملكة.
من هذه الدراسات العديدة واحدة جرت في قسم الطب بجامعة دانوب الخاصة في النمسا مؤخرًا، فقد شارك في الدراسة ثمانية متطوعين تحولوا من شرب المياه المعبأة في الزجاج والبلاستيك إلى شرب مياه الصنبور فقط. توصل فريق البحث، حسب المنشور في موقع Earth.com وبعد بحث مكثف، إلى ضرورة تجنب المشروبات المعبأة في زجاجات بلاستيكية، فالتغييرات التي لاحظها الباحثون في ضغط الدم تشير إلى أن تقليل تناول الجزيئات البلاستيكية يمكن أن يقلل من مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
العلماء وجدوا في دراسات سابقة ان الجسيمات البلاستيكية النانوية تشكل تهديدًا أكبر لصحة الإنسان من الجسيمات البلاستيكية الدقيقة؛ لأنها صغيرة بما يكفي لاختراق الخلايا البشرية ودخول مجرى الدم والتأثير على الأعضاء. يمكن للجسيمات البلاستيكية النانوية أيضًا أن تمر عبر المشيمة إلى الأجنة، ويشتبه العلماء ان مصدرها المياه المعبأة.
المفرح في هذا الجانب المزعج، أن الباحثين في عدد من الجامعات، وبعد التأكد أن المياه المعبأة ليست آمنة تماماً بسبب تغليفها البلاستيكي، يعملون على تطوير اختبارات لسلامة المياه سريعة ورخيصة ودقيقة بحيث تكون متاحة لمعظم الناس وسهلة الاستخدام للجميع مثل اختبارات الحمل، ويمكن نشرها بسهولة في المنازل ومراكز الرعاية والمدارس.
والسؤال: ما المطلوب من الجهات التنظيمية ؟
لحماية المستهلكين، الحكومات بيدها قدرة التشريع والتنظيم، والبحث والتطوير والدراسة لإيجاد البدائل. بيدها صناعة المبادرات التي تستهدف، اولا، تقليل الاثار الضارة الناشئة عن ضعف ادارة القطاع، بالذات في سلسلة الامداد. وثانيا، بيدها الاتجاه الاستراتيجي لتقليل الاستخدام الواسع للبلاستيك بالذات في المجالات الاستهلاكية والصناعية التي تعد مصدرا مهددا لصحة الإنسان، ومصدرا كبيرا للنفايات التي تدمير البيئة البرية والبحرية.
كذلك واجبها دفع مراكز الابحاث والدراسات إلى فهم تأثير الظروف البيئية وطرق التصنيع والتخزين والتسويق على المواد الكيميائية المنبعثة في المياه المعبأة. هذه يمكن أن تساعد في توجيه الشركات المصنعة والهيئات التنظيمية لضمان سلامة المنتج، ودعم الصحة العامة.
وأيضا، وحسب توصية العلماء والمختصين، يمكن للحكومات العمل على تحسين معايير الجودة، وهذا دور الهيئات الرقابية عبر وضع معايير صارمة للجودة، بما في ذلك فحص المكونات والتأكد من خلوها من الملوثات. وهذا يشمل التأكد من استخدام عبوات بلاستيكية آمنة عبر العمل على الاستثمار في تقنيات جديدة لتصنيع عبوات بلاستيكية آمنة وغير ضارة، مثل استخدام مواد قابلة للتحلل أو مواد بلاستيكية خالية من المواد الكيميائية الضارة.
أيضا تكثيف وتنويع العمل على جبهة (التوعية للمستهلكين) حول أخطار استهلاك المياه المعبأة في عبوات بلاستيكية، وكيفية اختيار المنتجات الأكثر أمانًا. مع الاستمرار في دعم الأبحاث ودراسات الجدوى لتوجيه الاستثمارات نحو مشاريع تركز على مصادر المياه المستدامة وتحسين البنية التحتية للمياه العامة.
لدينا في المملكة نحتاج التحرك لتحسين توزيع المياه من قبل المحسنين بالذات في المساجد، فهذه تعد مصدرا كبيرا لاستهلاك المياه وترفع نفايات البلاستيك. لم أصل إلى رقم دقيق لحجم المياه الموزعة، ولكن هذه بالتأكيد تصل إلى خانة الملايين.
في المملكة نقوم بإعادة تدوير 10 % فقط من المواد القابلة لإعادة التدوير.. في حين نرسل حوالي 90 % من المواد إلى مكبات النفايات، ومنها طبعا عبوات المياه البلاستيكية. هناك دول تقوم بتدوير 90 % من عبوات مياه الشرب البلاستيكية. بعد كم عام نعكس الرقم؟.