د. محمد بن أحمد غروي
يمثل الاستثمار في قطاع الصناعات الثقافية أحد أبرز أدوات القوى الناعمة في العالم المعاصر، حيث تحرص العديد من الدول على ضخ الأموال في المجالات الثقافية والإبداعية، لكسب أرضية لها خارج حدودها الجغرافية التقليدية، من خلال البرامج والمنح الثقافية، إلى جانب الاهتمام بصناعات الترفيه والفن.
تشكل الصناعات الثقافية والإبداعية اليوم 5 % من وظائف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كما تحتل هذه القطاعات 7 % من جميع الشركات في بلدان المنظمة ذاتها، حيث ساهمت بأكثر من 2 % من إجمالي القيمة المضافة الإجمالية لاقتصاد الأعمال فيها خلال سنوات ما قبل الجائحة.
المتابع للشؤون الآسيوية يرى أن هناك تركيزا ملحوظًا في الاستثمار الثقافي، وذلك لدعم اقتصادها من جهة، وتعزيز قوتها الناعمة على الساحة الدولية من جهة أخرى، ففي كوريا الجنوبية جاءت البداية مع مطلع الألفية الجديدة عندما بدأت وزارة الثقافة فيها ومجلس الأفلام في الشراكة مع شركات رأس المال الاستثماري لجمع الأموال العامة والخاصة المخصصة للصناعات الثقافية والسينمائية، وقد كان لهذه التجربة السياسية الجريئة غير المسبوقة تأثير كبير على الصناعات الثقافية، من خلال زيادة رأس المال المخصص، وخلق «سوق رأس المال الاستثماري الثقافي» وتحويل هيكل الاستثمار الثقافي.
تتوسع كوريا الجنوبية في الوقت الحالي في استثماراتها الثقافية، خارج حدودها، فقد أعلنت شركة الاستثمار الكورية «جي سي 56 كوريا» عن ضخ مليار دولار أمريكي في مدينة «فورست سيتي» بولاية جوهور الماليزية لتطوير أول مدينة ثقافية كورية بماليزيا؛ وذلك لإنتاج المحتوى الكوري، وليصبح منطقة ثقافية دولية ومشروع سكني عالمي.
التنين الصيني بدوره يسعى دائمًا لنشر إرثه الثقافي، وهو ما تبلور في اهتمامات حكوماتها في السنوات الأخيرة، فقد أنشأت لجنة الدعم المالي للصناعة الثقافية لتعزيز الرخاء والتوجيه التنموي، وأصدرت وزارتا الثقافة والمالية وبنك الشعب الصيني في مارس تقارير «حول آراء تعميق ثقافة التعاون المالي»، لقياس الأثر ولتشجيع المؤسسات المالية على دعم تطوير الصناعة الثقافية، وأطلقت الصين في نوفمبر 2022 صندوقاً للاستثمار في الصناعة الثقافية بحجم مستهدف تجاوز 7.5 مليار دولار أميركي، ويُعرف حرفياً باسم صندوق الاستثمار في الصناعة الثقافية الصينية، وسيركز على دعم إعادة هيكلة الشركات الثقافية وعمليات الدمج والاستحواذ، وتسهيل دمج الموارد الثقافية وتعديل الهيكل الصناعي، وتعزيز التنمية عالية الجودة للصناعة الثقافية، ويستثمر بشكل رئيسي في مجالات خدمات الأخبار والمعلومات، وتطوير وسائل الإعلام المتكاملة، وأشكال جديدة من الأعمال الثقافية، فضلاً عن السياحة والرياضة وصناعة الأفلام.
الساسة الصينيون يؤمنون بتطوير قطاع الثقافة والإبداع ليس من جانب اقتصادي فحسب، بل من اتجاه جيوسياسي أيضًا، فتصدير بكين للمزيد من المنتجات الثقافية مثل: الأفلام والرسوم المتحركة والفنون البصرية إلى الأسواق الخارجية؛ للترويج لثقافتها عالميًا، وتعزيز نفوذها وتشكيل صورة ذهنية إيجابية عنها.
ولا تزال العديد من الدول في العالم تحاول في الآونة الأخيرة التركيز على الصناعات الثقافية والاستثمار في مجالاتها، لتحقيق فوائد اقتصادية ومكاسب سياسية على الساحة الدولية بنشر ثقافتها بين مختلف الشعوب.
واستمرارًا للنهضة الشاملة التي تعيشها السعودية، فقد نجحت وزارة الثقافة في تطوير صناعتنا الثقافية، وفتحت للعالم منافذ جديدة ومختلفة للإبداع، انطلاقًا من أن التعبير الثقافي من مقومات الحياة وجودتها وركيزة من ركائز رؤية السعودية 2030، والدفع بالمبدع السعودي للإسهام في المحافل الدولية للتعريف بتراثنا الغني، وأختم مقالي بلقائي مع أحد وزراء المخضرمين في دول آسيان عندما تجاذبنا أحاديث التبادل الثقافي مع الشرق الأوسط حينما قال لي: «إن باب آسيان مفتوح للجميع لكن من يطرقه؟»