د. محمد بن إبراهيم الملحم
في حديثي السابق عن تقليل المناهج فإن النظام التعليمي الذي يقرر تقليل محتوى المناهج لا يمكنه أن يكتفي بهذا الإجراء طلباً لتحسين العملية التعليمية، فعلى الرغم من كل المنافع والفوائد التي سردناها مسبقاً نتيجة لتطبيق تخفيض محتوى المنهج فإنها لا تحصل أبداً إذا لم يوفر النظام التعليمي العوامل الأساسية لتحصيل تلك المنافع، وذلك يشبه حال من يعرف أن الدواء الذي يتناوله يوميا للكوليسترول له أضرار جانبية، ويعرف أن التقليل منه يجنبه تلك الأضرار ولا سيما أن التقليل ممكن طبياً إذا التزم الإنسان بحمية غذائية معينة ومارس تمرينات يومية، ثم اكتفى هذا الشخص بتخفيض كمية الدواء فقط دون اتباع بقية الاجراءات! إن مثل هذا التقليد الأعمى عندما تقع فيه المؤسسات وتطبق ما طبقه الآخرون دون تفهم كل متغيراته وتحقيق وتوفير كل عوامله بالكامل فإنها قد تفسد أكثر مما تصلح، ويغدو بقاؤها على ما هي فيه من الممارسة المتأخرة التي ألفها الجميع أفضل من الانتقال الجديد لممارسة حديثة بطريقة عرجاء مجتزأة، ولذلك سنستعرض اليوم بعض العوامل الأساسية المهمة لنجاح توجه تخفيض محتوى المناهج طلبا لتحسين عمليات التعلم والارتقاء بها وتطوير التعليم ومخرجاته.
أول هذه العوامل الحاسمة هو نظام تقييم المعلم، ومع أنه كان الأولى بي أن أبدأ بتدريب المعلم كما هو متوقع في كل تحديث أو تطوير للنظام التعليمي في أي من جوانبه، إلا أن بدئي بتقييم المعلم وتقديمه على التدريب إنما توجهت له لما للتقييم من أفضلية، ففي ظل نظام تقييم ضعيف للمعلم، لا يدفعه إلى احترام الممارسات الجديدة (خاصة التي تتطلب منه مزيد جهد)، فإن تدريبه يصبح عبئا تثقل المنظمة التعليمية به كاهلها دون أن تجني ثماره، وعندئذ فالتدريب لن يمثل سوى محطة استراحة للمعلم من عبء التدريس لمدة أسبوعين أو ثلاثة (مدة التدريب مثلاً).
تقييم المعلم ينبغي أولاً أن يكون «جاداً» يلمس المعلم آثاره الإيجابية والسلبية ويتعلم من خلاله ويتطور، ولا ينبغي له أن يكون شكلياً أو شبه شكلي، كما ينبغي له أن يبنى بأسس التقويم القياسية والتي شرحتها مئات الكتب والنماذج التطويرية فتتوافر فيه كل عوامل الدقة والمعيارية فيكون قابلاً للقياس، محدد التوقيت، منظماً وموضوعياً، شمولياً، عادلاً، وبقية المعايير المشابهة لهذه والتي ليس هذا مكان سردها. وهي بمجموعها تشكل مساحة تصميم التقويم لتبقى مساحة التنفيذ والتطبيق متاحة لممارسات المقيِّمين الذين ينبغي تدريبهم وتأهيلهم مع متابعتهم أيضاً وتقييم تقييمهم للتأكد من إتقانهم ممارسة عملية التقويم، وهو ما لا تقوم به أغلب المؤسسات في بيئات العمل، كما ينبغي لهذا التقييم أن يعكس أداء المنظمة كلها في مخرجاتها، فلا يتصور مثلاً أن يحصل المعلمون على تقييمات متقدمة جداً في حين أن نتائج طلابهم متأخرة جداً، وبالطبع لا أقصد بالنتائج تلك التي تصنع بطريقة شكلية مخادعة (وأبرزها تقييمات المعلمين) وإنما تلك التي تقاس بالطرق المعيارية المنظمة.
بعد ضبط تقييم المعلم يأتي التدريب فمتى ما كان تقييم المعلمين مضمون الجودة والمصداقية فإن تدريبهم هو المحرك النفاث لإطلاق إبداعاتهم في تقديم تدريس متميز، ذلك أن تخفيض المنهج يسحب شيئا من المسؤولية عن محتوى المنهج ذاته ويسلمها لإبداعات المعلم التدريسية ليحسن استثمار الوقت الزائد الذي تم توفيره للحصص الدراسية في أنشطة تعلم ومناقشات وتدريبات ستمكّن الطالب من المعرفة والمهارة بطريقة جديدة كليا، فيصبح «متعلماً مدى الحياة» لديه بصيرة كافية حول هذه المعرفة والتي كونها العمق المعرفي الذي وفرته له الأنشطة التدريسية الجديدة والتي تنقله من النظرية للتطبيق، وحتى يتمكن المعلمون من تحقيق ذلك فهم بحاجة إلى دفعات كبيرة وكثيرة من التأهيل والمران على ممارسات جديدة لم يألفها كثير منهم من قبل. ولذلك فإن مثل هذا التدريب ينبغي أن يتجاوز الأنماط التقليدية ويقدم هو بذاته بطريقة إبداعية يتمثل فيها القدوة الحسنة للمعلمين المتدربين ويرتقي بهم درجات متقدمة في الإبداع التدريسي والعمق الفكري والشمولية في فهم موضوعات تخصصهم ليتمكنوا من استثارة تعلم متقدم وممتع لدى الطلاب.
توفير الأدوات والوسائل يأتي في المرتبة الثالثة، ولها دور حاسم، فالمعلم الذي سيستخدم طرائق تدريس تقوم على تعلم الطالب وبحثه عن المعرفة وتدربه في الفصل على تطبيقها سيحتاج إلى كثير من وسائل الإيضاح وأدوات التطبيق، وخاصة تلك الحديثة التي تقدم المعرفة بطرق ممتعة وتبسطها بأساليب إبداعية، وما لم تكن المؤسسة التعليمية كريمة بما فيه الكفاية لتوفير أحدث ما صدر من الأدوات والوسائل الحديثة وتدريبه عليها وتوفير الخدمات اللازمة لها من إدارة وتنظيم وصيانة فإن مهمة المعلم ستكون أكثر صعوبة وربما لا يحقق الكثير، على الرغم من امتلاكه المهارات اللازمة التي حصل عليها من التدريب.
أخيراً لا بد من التأكيد على أن تخفيض المنهج كمدخل تطويري للتعليم له متطلبات قوية ومهمة وحساسة كما تقدم، وهي أيضاً مكلفة مادياً ولا نستغرب ذلك فالعائد على مثل هذا الاستثمار كبير جدا ويستحق ما يبذل له من جهد ووقت وموارد، وسيكون تخفيض الجانب الكمي رافعاً للجانب النوعي، وكل ما أتمناه ألا يأتي اليوم الذي نرى فيه المناهج وقد خفضت بينما لم يتم تهيئة متطلبات هذا التخفيض، فعندئذ سيكون تخفيض الجانب الكمي خافضاً للجانب النوعي بل خافض جداً.
**
- مدير عام تعليم سابقاً