د. عبدالحق عزوزي
توفي منذ أيام والدنا العلامة الفقيه الدكتور إدريس عزوزي، -رحمه الله-، وهو أحد كبار علماء القرويين ورائد الإصلاح وشيخ العلماء النابهين المجدين والمجددين، وأحد أئمة اللسن والقلم والفكر المنفتح في عالمنا المعاصر. والمرحوم هو فريد عصره ونسيج وحده، له التصانيف المفيدة والفتاوى المتبعة؛ وكانت له اليد البيضاء في الوعظ والتوجيه والتربية والتكوين، وكان يحضر مجلسه بالقرويين أرباب العلوم والطلاب وعامة الناس ويسألونه، وهو يجيب كل سائل بأحسن إجابة وبالوسطية والاعتدال...
حفظ القرآن الكريم وهو صغير السن؛ وأخذ العلم عن كبار مشيخة جامع القرويين وعلمائها، ثم التحق بدار الحديث الحسنية بالرباط، وأخذ عن مشيختها وأساتذتها، ونال منها شهادة الدكتوراه ودرس لعقود بكلية الشريعة بفاس كأستاذ للتعليم العالي.
كان -رحمه الله- لأزيد من ستة عقود خطيبا وواعظا بجامع القرويين، أقدم جامعة في العالم، وبالعديد من مساجد مدينة فاس ومدن أخرى؛ حاضر في العديد من دول العالم؛ واشتغل في سلك التعليم منذ حصول المغرب على الاستقلال... طواه الردى عنا والأمل معقود بامتداد حبل حياته، وحاجة الوطن ما زالت ماسة إلى وجيه رأيه وصائب نظره وجميل تأتيه، وحميد مسلكه ومسعاه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً}، (إنا لله وإنا إليه راجعون)وقد وافاه الأجل -رحمه الله - يوم الاثنين 21 صفر 1446 ه الموافق 25 اغسطس 2024، ودفن بمقبرة أبي بكر بن العربي نزولا عند وصيته:
لفقدك طلاب العلوم تأسفوا
وجادوا بدمع لا يبيد غزيز
ولو مزجوا ماء المدامع بالدما
لكان قليلا فيك يا ابن أثير
وما أعظم هذه الرزية وأشنع هذا المصاب، وما أقسى ما منينا به خاصة نحن عائلته، حيث وجدنا فيه الأب الحنون، والعالم المربي، والوطني الكبير والمجتهد الغيور، صاحب الوقار والحشمة، حيث كان مؤمنا أقوى وأصلب ما يكون الإيمان، بأمثل المبادئ وأسمى القيم، عالما بأسرار الدين والتفسير والحديث والفقه والبلاغة والنحو، واسع الاطلاع على مختلف الآداب قديمها وحديثها، ثاقب البصر نافذ الإدراك لمتعدد التيارات والمذاهب، طريفها وتليدها، ولكنه كان في جهاده وتفكيره وتوجيهه وتثقيفه صبا عميدا بالأصالة والأثالة، لا يحيد عن قصدهما، ولا يجور ولا يستسيغ من القديم والحديث والغريب والجليب إلا ما يتماشى وما كان يؤمن به من أصالة العقيدة وأصالة الالتزام وأصالة القيم.
وهكذا برزت عظمة والدنا -رحمه الله- بمآثره وأبعاده الذي رفع راية العمل حتى ترامت أخباره إلى الأقطار النائية، وعرف بالفقيه العلامة، وعظمت شهرته، وظلت شخصيته ملهمة للكثير، موحية بالكثير، لأنها معدن لا ينفد بعد أمد من الاستمداد قصير، ومنبع لا ينضب على كثرة الاستسقاء والارتواء، ومنار استوى في الاستمتاع بإشعاعه الطلبة والعلماء وعامة الناس، والأصفياء من ملازميه وأصحابه، في بأسائه وسرائه وضرائه، والتمس الجميع لديه الملاذ مثلما التمسه فلول الأندلسيين في محنتهم الفاجعة:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس
فهو بحق من بين أولئك الذين ناضلوا عن أصالة بلدهم ووطنهم ووحدة لواء العروبة والإسلام، وسهروا على إرهاف وعي الخاص والعام وإزاحة رواسب ليالي المحنة والمرهقة بصراع القوى ومعترك المذاهب وصدام التيارات، ويظلون في موقعهم من ميدان الجهاد، حتى إذا توفوا بقوا أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فمثله وإياه كما قال الراثي:
جلت رزيئته فعم مصابه
فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد
في كل جار رنة وزفير
ردت صنائعه عليه حياته
فكأنه من نشرها منشور
سيثنى عليك لسان من لم توله
خيرا لأنك بالثناء جدير
كان الوالد -رحمه الله- فقيها جيد الفهم، صحيح الدين، ويحيي الليل إلى آخر وقت، ويشارك في العربية مشاركة جيدة، ولا يعرف أحد أنه اجتمع به، إلا وأخذ منه؛ وكان ممن أوتي الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس؛ وكانت له في الحديث والتفسير نكت، وكان يؤمن بأن الاقتصار على الكلام المعاد، تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد. كان رجلا زاهدا ورعا تقيا؛ كان يأمرنا نحن أبناءه منذ نعومة أظافرنا بعدم تضييع الوقت وألا يفارقنا الكتاب بالليل والنهار، وكنا نستمتع باجتماعاته العلمية مع علماء القرويين الذين كانوا يجتمعون في بيت أحدهم كل سبت بعد صلاة العصر؛ وكان يجلسنا بجواره في مكتبته العامرة التي أوصى بها إلى خزانة كلية الشريعة، جامعة القرويين، ويسائلنا في دروس النحو والبلاغة ويتناول معنا كليات العلوم ومعاقد استنباطها ويذهب بنا إلى قوس البلاغة من محل نياطها، طمعا في بيان نكت من العلم وكليات من التشريع، وتفاصيل من مكارم الأخلاق.. وللحديث بقية.