د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الإنسان بطبعه يبحث عن السرور بكل وسيلة، لكنه سراب يحسبه الظمآن ماء، وحتى لو وجده في فترة محددة ربما دقائق أو ساعات أو أيام قليلة، فإنه سيفقده، ليلهث وراءه مرة أخرى، وهكذا فهو ينتقل من مرحلة إلى أخرى لعله يجد ضالته لتبقى لديه دون انصراف، ومهما كان حال المرء الاجتماعي والمالي والصحي، فإن بقاء السرور في قبضته أمر عسير، بل مستحيل، فنوائب الدهر تصيب المرء مهما علا، وملك الأدوات الدنيوية التي تعينه على مراده، وكان السرور ولادة بنت المستكفي التي قال فيها بن زيدون:
هِيَ الماءُ يَأبى عَلى قابِضٍ
وَيَمنَعُ زُبدَتَهُ مَن مَخَض
ويبدو أن مقدار السرور يصنع في النفس البشرية، وليس خارجها، ويتفاوت الناس في مقدار السرور طبقا لطبيعتهم النفسية وليس لأحوالهم، والناس تتغير في نظرتها لمواقع سرورها، فها هو الإمام الشافعي يقول:
وَلَستُ أَرى السَعادَةَ جَمعَ مالٍ
وَلَكِنَّ التَقيَّ هُوَ السَعيدُ
والتقوى هي اتباع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، وهذا ما رأى فيه الشافعي غاية سروره، يتماشى مع الإحساس بالسعادة لدى عالم ورع كحال الإمام الشافعي.
وقيل لأحد الحكماء: تمنَّ فقال: (محادثة إخوان، وكفاف من العيش يسد خلتي ويستر عورتي، والانتقال من ظل إلى ظل). هذا الحكيم حصر أمانيه في العفاف والستر، وعدم الحاجة إلى الناس، لكنه تمنى الا يزول فهو يريد أن ينتقل من ظل إلى ظل، بلا أمر يكدر صفوه، وهذا شبه محال، لكنها الأماني يجعلن الفتى ملكاً.
ولو ذهبنا بعيداً في الزمن إلى العصر الجاهلي، فإن أماني أهله تختلف عن الكثير من أماني من عاش بعد الإسلام، ما عدا البعض، فلا نجد في ذلك الزمان من يتمنى التقوى، لأن مفهومها الإسلامي غير موجود، ولا كفاف العيش، لأنهم عاشوا للحياة، فقد قيل لامرئ القيس: ما أطيب عيش الدنيا ؟ فقال: بيضاء رعبوبة، بالطيب مشبوبة، بالشحم مكروبة، فهو يريد امرأة بيضاء حسناء ناعمة، امتلأ جسمها، لها وجه صبوح مشرق، ويريدها مكروبة أي ممتلئة شحماً، ممشوقة، والشحم من صفات الجمال عند العرب، فشاعرهم يقول:
من رأى مِثلَ حُبَّتي
تُشبهُ البَدرَ إِذ بدا
تَدخُلُ اليومَ ثُمّ
تَدخُلُ أردَافُها غَدَا
أما الاعشى، وهو شاعر جاهلي فقد تمنى غير ذلك، ويبدو أن أمنيته كانت على كبر، لأنه لم يتمنَ النساء، وإنما تمنى الخمر، فقال: (أريد صهباء صافية، تمزجها ساقية، من صوب غادية) فهو يريد خمراً ممزوجاً بماء صوب غادية، أي سحابة نشأت وأمطرت عند طلوع الشمس، فيكون مطرها نظيفاً بارداً، والذي يمزجها ويقدمها غادة حسناء. أما طرفة بن العبد الفتى القتيل، فقال في أمنيته: (مطعم شهي، وملبس دفي، ومركب وطي) فهو شاب يريد أكلاً وملبساً، ومركب وطي أي امرأة حسناء ناعمة، ونختم بقول الشاعر:
إذا تمنيت بت الليل مغتبطاً
إن المنى رأس أموال المفاليس