د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
تستعمل العربية البناء (تَفاعَل) للدلالة على اشتراك فاعلَين أو أكثر بالفعل، فيقال: تعاون الرجلان وتعاون القوم، قال تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى) [2-المائدة]، وهو امتداد لفعل متعد هو (فاعل) تقول: عاون الرجلُ الرجلَ وتعاونا، أي هو مطاوع الفعل (فاعل) نحو (قاتل الرجل عدوه) و(تقاتل الرجلان) و(تقاتل القوم). ويأتي (تفاعَلَ) وليس امتدادًا لغيره ولا مطاوعًا، نحو: تجاسر، وتهاون، ولعله انعكاسي أي من فعل الفاعل بنفسه؛ فكأنه جاسر نفسه أي حملها على الجسارة، وهاون نفسه جعلها ترى الأمر هينًا.
وأما الفعل (تواجد) فهو من الجذر (و/ج/د)، وما وضع من الأفعال على هذا الجذر يدل على معنيين، أحدهما حسّيّ وهو الإلفاء كوجدان الضالة، وقلبي معنوي وهو الغضب والحبّ والهوى، وقول عمر بن أبي ربيعة محتمل للمعنيين:
ليت هندًا أنجزتنا ما تعد... وشفت أنفسنا مما تجد
وعلى المعنى القلبي أي الهوى والحب يأتي الفعل (تواجد)، قال الزمخشري «وتواجد فلان: أرى من نفسه الوجد»(1). وذكر ابن الجوزي الفعل (597ه) «قَالَ رأيت أبا عثمان سَعِيد بْن عثمان الواعظ وَقَدْ تواجد إنسان بين يديه، فَقَالَ لَهُ يا بني إن كنت صادقا فقد أظهرت كل مالك وإن كنت كاذبا فقد أشركت بالله»(2). وقال ابن تيمية (ت 728هـ) «وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تواجد حتى سقطت البردة عن منكبه، فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث»(3).
واشتهر استعمال هذا في التعبير عن الوجد الصوفي، قال الكلاباذي (ت380هـ) «فَمن ضعف وجده تواجد والتواجد ظُهُور مَا يجد فِي بَاطِنه على ظَاهره وَمن قوي تمكن فسكن»(4). وقال المُظْهِري (ت 727 هـ) «وفي الحديث: دليلٌ على أن تواجُدَ الصوفية لظهور الوَجْد جائزٌ»(5)، وقال الشاطبي (ت 790هـ) «وَكُلُّ تَأَثُّرٍ يَحْصُلُ عَنْهُ ضِدُّ السُّكُونِ؛ فَهُوَ طَرَبٌ لَا رِقَّةَ فِيهِ وَلَا تَوَاجُدَ، وَلَا هُوَ عِنْدَ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَحْمُودٌ»(6).
ولم تستعمل العربية من (الوجود) المكاني فعلًا مزيدًا على (فاعل)؛ ولذا كان غريبًا أن يستعمل منه تفاعل، ولو استعمل (واجد الرجل صاحبه) لكان بمعنى وجد كل منهما صاحبه، وكذلك تواجد الرجلان أي وجد أحدهما الآخر، وليس هذا مراد المحدَثين من الفعل (تواجد)؛ على أن الفعل (تواجد) قد يسند إلى الواحد أو ما هو في مقامه بمعنى يختلف عن الوجود المكاني وهو الوجد القلبي كما ظهر في النصوص السابقة. ثمّ كثر استعمال المحدثين للفعل (تواجد) بمعنى حضر أو جاء أي للدلالة على وجوده في المكان، وصحح أستاذنا أحمد مختار عمر استعمال المحدثين، قال «التواجد في اللغة هو إظهار الوجد أي الحبّ الشديد، ولم يَرِد بمعنى الوجود في المعاجم القديمة، ويمكن تصحيح هذا الاستعمال بناء على أن المجرَّد الذي يدلّ على الوجود هو «وُجد» المبني للمجهول، فحين أراد المتكلم تعليق الفعل به على سبيل الفاعلية جاء بإحدى صيغ المطاوعة وهي «تفاعل»، وقد أثبتت المعاجم الحديثة هذا الاستعمال ومنها الوسيط والأساسي، ونَصَّا على أنه مولّد أو محدث»(7).
وأما نسبته استعمال المعجم الوسيط له فوهم منه؛ فالوارد في المعجم الوسيط هو «(تواجد) فلَان أرى من نَفسه الوجد»(8).
ويمكن تقوية تصحيح مختار بنصوص؛ إذ نجد جملة صالحة من النصوص التي ورد فيها استعمال الفعل (تواجد) للدلالة على المعنى الحسي وهو كونه موجودًا، من ذلك ما ذكره الجرجاني(ت 403 هـ) «جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا أراد أن يبول تواجد في عراء من الأرض أخذ عودًا فنكت به الأرض حتى ينبري التراب ثم بال فيه»(9)، وقال ابن نباتة(ت 768 هـ)(10):
لو أثر التقبيل في يدِ ماجدٍ … لمحا تواجد كفّه التقبيل
وقال العسقلاني «قال (ع): فيه نظر، لأنّه لم يسافر تاجرًا، إنّما تواجد مرّة مع عمه وهو صغير، ومرة مع غلام خديجة استأجرته على أربع بكرات، وخرج في مالها ولم يكن له شيء، وفي المرتين لم يتعد بصرى»(11).
ولعلنا نجد بهذا مساغًا لاستعمال المحدثين.
**__**__**__**__**
(1) أساس البلاغة للزمخشري، 2/ 320.
(2) تلبيس إبليس لابن الجوزي، ص228.
(3) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية، ص19.
(4) التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي، ص112.
(5) المفاتيح في شرح المصابيح للمُظْهِري، 6/ 38.
(6) الاعتصام للشاطبي، تحقيق: الهلالي، 1/ 359.
(7) معجم الصواب اللغوي لأحمد مختار عمر، 1/ 269.
(8) المعجم الوسيط، 2/ 1013.
(9) المنهاج في شعب الإيمان لأبي عبد الله الحَلِيمي الجرجاني، 2/ 275.
(10) ديوان ابن نباتة المصري لجمال الدين بن نباتة المصري الفاروقي، ص394.
(11) انتقاض الاعتراض في الرد على العيني في شرح البخاري لابن حجر العسقلاني، 2/ 472.