سهام القحطاني
يكاد المختصون في مجال النقد العربي هم من يعرفون ابن طباطبا -أو هكذا أعتقد- فلم يحظ بشهرة عابرة لحدود التاريخ مثل الجرجاني والجاحظ.
وقد قارن الدكتور»محمود الحسيني المرسي» بين مكانة ابن طباطبا وبين من سبقه من النقاد فقال» أن ما جاء في كتاب عيار الشعر « تكرار لكل ما قاله النقاد من قبله ؛وهوعودة لنزعة الجاحظ العقلية، و نزعة ابن قتيبة التقريرية، ولمسات طفيفة من نقد بن سلام الذوقي».-مفهوم الشعر في النقد العربي حتى القرن الخامس الهجري-ولكن للدكتور جابر عصفور له رأي آخر، فهو يرى في كتابه «مفهوم الشعر» أن ابن طباطبا من خلال عيار الشعر سعى إلى تقديم «نظرية في علم الشعر» ترتبط « بتصورات محددة عن المهمة والماهية و الأداة،..على إدراك الأصول النظرية لمفهوم الشعر، وبذلك طرح قضية مفهوم الشعر طرحا متميزا»ص11.
والفكرة الرئيسة هاهنا أقصد المساءلة النقدية «أن مقاييس الحكم على قيمة أي تجربة نقدية» غالبا «الإضافة أو التجديد أو إعادة تدوير الأفكار «هي مقاييس يتكئ عليها الحكم «بقيمة أي تجربة في مجال النقد».
وعلينا القول «بأن مسطرة القيمة» تُقاس حسب تصنيف ماهية القيمة؛ وهي ثلاث مراتب؛ إما بالنسبة «لعصر فاعل القيمة» أثر ما قدمه على تطور عصره، وهو مالم يُحدثه ابن طباطبا، أو»لنسبة الإضافة إلى قيمة من سبقه» تطوير النظريات التي سبقته ونظرا لتراجع اسمه أمام الجاحظ فلم يستطع أن يتغلب على من سبقه أو «لأثره فيمن بعده» مساهمة في إنشاء نظريات جديدة، ولعل هذا الأثر لابن طباطبا نجده في كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، لكن لم يضف شيئا لكتاب الصناعتين.
عاش ابن طباطبا «نهاية القرن الثالث الهجري وما بعده في بيئة حيوية على مستوى الازدهار العلمي، وهي حيوية دفعته إلى فكرة مشروع «تأصيل علم الشعر وأدواته ومقاييسه».
ورغم قيمة هذه المحاولة في بعديها التعليمي والتثقيفي، إلا أنها لم تحقق أي ثورة نقدية أسوة بالجرجاني أو الجاحظ لأسباب منها -حسبما أظن-.
*إن الأحكام التي قدمها لتأصيل الشعر غير اصطلاحية وغير قابلة للقياس» واعتمدت على «الوصف النوعي»؛مثل تقسيمه للشعر إلى ما هو «محكم» وماهو «مموه، وتأكيده على أن استقامة عيار الشعر يعتمد على»الفهم الثاقب»فما قبله واصطفاه فهو واف وما مجه ونفاه فهو ناقص»- «-عيار الشعر ص19،ت/عباس عبد الساتر- فالفهم ليس قيمة قياس، بل تقدير ذوقي،وهذه التقابلية الوصفية لا تحمل خصائص المنهج.
*افتقاد تجربته النقدية المساحة الفكرية الجدلية التي شاعت في مؤلفات مثل ابن جني والجاحظ، ولعل السبب في ذلك ضعف الجانب الفكري عند ابن طباطبا،رغم إنكاره لهذه التهمة من خلال قوله: «والله إني أقدر على الكلام من واصل بن عطاء» إشارة إلى إمام المعتزلة.
فلم يحاول أن يتمثل بأي نظرية فكرية استثمرها النقاد قبله،رغم وجود إمكانية في المسائل التي تتطرق لها، مثل أقسام الكلام، والواقعية الشعرية التي يعتبر ابن طباطبا أول من لفت الأنظار إليها ومسألة الصدق والكذب التي تنطلق من تلك الواقعية وليس من منطق الجمال الفني،بل واعتبر أي مجاز لا يقارب الحقيقة هي صفة من صفات «الشعر الغلق».
*ظهر عيار الشعر في وقت كان الشعر في أزهى عصوره عصر شهد نخبة الشعراء وكان شعر هؤلاء النخبة هو المدرسة الشعرية التي يحتذي بها الشعراء، ولذلك مرّ الكتاب في هذا الازهار الشعري مرورا هادئا وخاصة أنه لم يحمل أي جدل فكري وهذا ما يُفسر صدى كتاب عيار الشعر فيمن جاء بعده لضعف الشعر وليس في عصره.
*صحيح أن ابن طباطبا حاول أن يؤسس للشعر أصولا منهجية أسوة بعلم النحو والبلاغة، لكن ماجعل مشروعه النقدي يتعثر؛ أن البلاغة والنحو هي علوم جوهرية في ذاتها تتميز بالعقلانية والقياسية، وهي خصائص لايمكن تطبيقها على الشعر بسبب خاصيته الأعظم وهي «الفعل الإبداعي» الذي لا يمكن إخضاعه لأي تأصيل»فالشاعر يحق له في تجاوز الحدود مالا يحق لغيره».
إضافة إلى أن طبيعة العلاقة بين العربي والشعر اكتسب نمطها بخصائصه الذاتية ومشاعره الخاصة وذوقه الفكري والوجداني و مساحته الحرة لاختيار المعنى
واللفظ دون قيود وهذا ما يُسمى بالإبداع.
الإبداع الذي حاول ابن طباطبا من خلال مشروع تأصيل علم الشعر أن ينتزعه من الشاعر ومن التجربة الشعرية ويخنقها في قوالب مسكوكة.
فالشعر طائر حر لا يمكن حبسه في قفص من الالتزامات العقلية أو المقاييس المسطرة أو أحادية النمط التذوقيّ.
لذا ظل كتاب عيار الشعر في نظر النقاد هو كتاب تعليمي على غرار «كيف تكتب شعرا»، أقرب من كونه خطابا نقديا جدليا.