أ.د. محمد خير محمود البقاعي
كانت الشمس قد قاربت على المغيب، وكان علي انتظار اليوم التالي لإجراء العملية. خففت الحبوب من الآلام، وصار قضاء الليلة في المشفى محتوما لأن الطبيب الذي يجري مثل تلك العمليات ببراعة وإتقان كما قالت الممرضة يحب العمل في الصباح وعلي أن أكون جاهزا في العاشرة صباحا. قالت الممرضة لقد حظيت بطبيب بارع من المتقنين هو الدكتور بيير توركا وعقبت بأنه الشقيق الأصغر للطيار والسياسي أندريه توركا André Turcat 1921-2016م، وهو الطيار الذي كان أول من قاد طائرة الكونكورد التي كانت أسرع من الصوت في رحلتها التجريبية الأولى من باريس إلى نيويورك، في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 1969م. كان حديثها بلغتها العذبة ضربا من التسلية فتح الباب لحديث عرفت فيه كل ما توده عن عملي ودواعي وجودي في مدينة إكس أن بروفانس.
أدركني النعاس ولم أستيقظ إلا في الصباح الباكر وقد بدأت تنتابني نوبات من الألم الممض، وما لبثت ممرضة أخرى أن دخلت علي بكأس من عصير البرتقال وقالت إنه من الأفضل الاكتفاء به بانتظار العملية، وفي الثامنة بدأ طبيب مساعد والممرضة بإعدادي للعملية فمسحت اليدين والصدر بالماء الفاتر ومسحت على رأسي ثم قالت نحن بانتظار فريق التخدير وسيكون موضعيا. مر الوقت بطيئا، وبدأ الألم يشتد وبعد حين دلف إلى الغرفة شابان ليأخذا السرير إلى غرفة العمليات لبدء التخدير بانتظار الطبيب، خدروني، وبعد مدة دخل الطبيب بقامته الممشوقة ووجهه النضر وعلى ثغره ابتسامة أنيسة سألني عن اسمي وعملي وبلدي وقال كم أود تعلم اللغة العربية، وسألني عن المستشار السيد بارون فقلت: أعرفه وأعرف ابنته وحضرت له لقاء شعريا فسر وقال: إذن؛ سيتاح لنا أن نلتقي فأجبت بكل سرور. وكان المساعدون يحضرون في هذه الأثناء مستلزمات العملية، وشمر الطبيب عن ساعديه وبدأ باليد اليمنى استغرقت العملية ساعة ونصف الساعة ثم بدأ المعاونون بوضع الجبس من الكتف إلى موضع الاسورة من اليد ولما انتهوا وزال أثر التخدير شعرت بثقل القوالب التي تحيط بساعدي وأخبرني الطبيب بأن العظم كان قطعا فلجأ إلى إعادة تشكيله واستعان بقطع معدنية لتثبيته وهي قطع معدنية سيزيلها بعملية أخرى عندما يلتئم العظم وقد يستغرق ذلك ثلاثة أشهر، نزيل الجص بعدها، أما المعدن فيحتاج لشهرين إن كان التحام العظم مرضيا وأنني بحاجة إلى من يساعدني خلال هذه المدة واقترح أن يطلب تأمين ممرضة للقيام بذلك تأتي ثلاثة مرات في الأسبوع إلى مكان إقامتي. كان الجص يساعدني في تحريك الذراع من الأسفل إلى الأعلى.
أما الطعام فقد اقترحت علي ثلاث من موظفات الجامعة أن أقيم في منزل كل منهن أسبوعا حتى يحل وقت نزع الجص ويصبح بإمكاني تدبر أمري. أكبرت في السيدات اللواتي كن يقمن في شقق متوسطة خصوني منها بغرفة ومن يحملنني بعد أسبوع من الراحة إلى الجامعة ويثبت لي إلى القاعة ويأخذني منها. لم يكن عدد الطالبات كبيرا وكان وضعي يجبرهن على التناوب في عملية الكتابة على السبورة وكنت أصلح الكتابة والقراءة وأشرح بعض القواعد البسيطة، وأصبحت الإعاقة الآنية فرصة لممارسة التعلم بفائدة أكثر.
مضى الوقت سريعا وكنت فرحا بما تحققه الطالبات من تقدم في تعلم اللغة وما يرتبط بها من ثقافة تقتضي طرق تعبير وأساليب غير التي ألفوها في لغتهم الأم. كان هذا حال طالبات الماجستير بينما كان لدي فئة أخرى من طلاب السنة الثالثة من قسم اللغة العربية بينهم طالبات وطلاب عرب كنت أدرسهم جانبا من مادة المكتبة العربية كانوا شعبتين في كل شعبة ستة من الطلاب والطالبات العرب أو من أصول عربية وكان تعليمهم يحتاج جهدا أقل.
مضى الوقت وجاء موعد نزع الجص بعد أن اطمأن الطبيب من خلال التصوير الشعاعي على التحام العظام فأمر بنزعه وأوصاني بالتزام الحيطة والحذر. ثم دار بيننا حديث عن فن الطهي السوري وتنوع المأكولات وجودتها صنعا وصحة وتقديما فقلت يشرفني أن أدعوك والسيدة توركا على وجبة عشاء سورية عندما ننزع قطع المعدن فوافق وشكر لي ذلك.
وفي اليوم التالي حدثت صديقي كجة عما التزمت به فقال: هناك مطعم سوري في إكس يمكن أن يفي بالغرض ولكنهم يبالغون في الأسعار، وبينما كنا في سياق الحديث دخلت السيدة بارون فحدثها كجة بالأمر فقالت: ولم المطعم هناك بين الطلبة من عرب ومن أصول عربية سيدة سورية مسيحية متزوجة من ضابط فرنسي سابق متقاعد أصوله سورية أيضا وهي بارعة في فن الطهي بأنواعه وقالت إن السيدة تسكن مرسيليا مع زوجها وابنهما وتأتي للدراسة ثلاثة أيام في الأسبوع، سألت عن اسمها فقالت نجاح، فقلت هي طالبتي وسأسألها عن استعدادها لمثل ذلك. قالت السيدة بارون: وإن وافقت فيسعدني استقبالكم في منزلنا. بدأت ملامح الوليمة تتضح وفكرت بدعوة السيدات الثلاث اللواتي استضفنني في مرحلة الجص وعندما حدثت السيدة بارون بالأمر فرحت وأبدت سرورها من مبادرة الشكر والتقدير.
سألت السيدة نجاح فأبدت استعدادها لإعداد كل ما تستطيع إعداده في بيتها قبل يوم من الموعد ثم تستكمل الباقي في بيت السيدة بارون صبيحة يوم الموعد فوافقت وبعد استشارة السيدة بارون وموافقتها دفعت للسيدة ما قدرته من تكاليف ما تحتاجه من مواد لإعداد أصناف الطعام التي اتفقنا عليها على أن أنسق مع السيدة بارون عن عدد المدعوين وموعد الدعوة ليجري التنفيذ كما ذكرت.
تواصلت مع الدكتور تركا وحددت معه الموعد في مساء أحد أيام السبت القريب. تواصلت مع السيدة نجاح وأخبرتها مبديا شكري وتقديري، ملحا على قضية التكاليف والاستعداد لأي مساعدة. أعددنا لائحة المدعوين وطلبت مني السيدة بارون بلطفها المعهود التواصل معهم قبل يومين من الموعد. وفي صباح اليوم المحدد وصلت السيدة نجاح بسيارتها إلى بيت السيدة بارون تحمل ما أعدته من أنواع الكبة أودعتها الثلاجة وبدأت بإعداد ورق العنب ومستلزمات التبولة والفتوش والمتبل والسلطات تحت أنظار السيدة بارون التي كانت تبدي إعجابها بمهارتها وصبرها وإتقانها وألحت عليها أن تبقى معنا وأبدت استعدادها للاتصال بزوجها ودعوته على أن يأتي به سائق السيدة ويعودان معا بسيارتهما فوافق الزوج عندما علم بشخصية المتصلة وزوجها. انفرجت أسارير نجاح ومر الوقت سريعا وبدأت في التحضير للمائدة وفي الموعد المحدد كان الدكتور توركا وعقيلته أول الواصلين ثم توالى المدعوون ووصل سائق السيدة ومعه زوج السيدة نجاح وهو ضابط متقاعد في الجيش الفرنسي. ولما اكتمل النصاب وجهزت السيدة ونجاح تساعدهما المدبرة المائدة أشارت إلي السيدة وأسرّت لي بدعوة الضيوف ففعلت وانتقل الجميع إلى صالون الطعام. كانت الألوان والترتيب يسرق الأنظار بانتظار التذوق واقترحت السيدة أن أجلس بجانب السيدة توركا لأذكر لها أسماء الأكلات على مسمع من الجميع.
امتدّت الأيدي وكانت السيدة نجاح وزوجها يساعدان في ذكر التفاصيل والمكونات وكجة يقارن بين ما يأكله والوجبات المغاربية. تلقت نجاح عبارات الإطراء بابتسامة رضى، وبدت على وجه زوجها ملامح السرور وامتد وقت الطعام ساعات كعادة الفرنسيين بالتمتع بالمأكل والمشرب.
كان أول من انتهى الدكتور توركا وزوجته التي قالت إنها منذ زمن لم تأكل بهذا القدر، واقترحت عليهم نجاح أن يشربوا القهوة السوداء على الطريقة العربية وقامت هي بإحضار الدلة التي حملتها معها وتولت إدارتها على الحضور الذين استساغوا طعم نكهة الهيل فيها واستزادوا منها فلبتهم نجاح وقد انفرجت أسارير وجهها وامتدت الأمسية حتى الواحدة صباحا عندما استأذن الجمع بالانصراف مبدين شكرهم على هذه الليلة الشرقية بامتياز مظهرين علامات الرضا والشكر.
كانت السيدة بارون في غاية الرضا وشاركت المدبرة في أعمال ما بعد الوليمة والرضا باد على ملامحها.
قضيت تلك الليلة في منزل السيد والسيدة بارون التي أصرت أن يكون غذاؤنا في اليوم التالي ما تبقى من الطعام اللذيذ كما عبرت.
لم تزل ذكريات تلك الأيام غضة طرية في ذهني وأحداث ذلك العام التي تركت آثارها على جسدي، واستعدت بعد إزالة الدعامات المعدنية قدرتي على الحركة الحرة والكتابة وأنهيت في عام 1989م العام الدراسي بتهنئة من المسؤولة على برنامج العربية للنتائج التي حققتها الطالبات اللواتي توليت تدريسهن العربية في البرنامج وتولت لجنة من القسم تصحيح الاختبار النهائي لهن، وأخبرتني أنهم وافقوا على تجديد عقدي لعام قادم لتوفر الاعتمادات احتفظت بسكني الجامعي، وعزمت على التوجه إلى ليون لمقابلة أستاذي واطلاعه على ما أنجزته خلال الشهور الأخيرة من عام 1989م. وقضيت عشرة أيام في ليون بضيافة فيليب في سكن جديد في الريف الليوني كنت أذهب معه في الصباح إلى المدينة ونعود معا في المساء، ولما التقيت أستاذي فرح لرؤيتي وقد استعدت نسبة كبيرة من التعافي والقدرة على الحركة، ولما تصفح ما حملته إليه قال: أحتاج شهرا لقراءة كل هذا وسأرسله إليك بالبريد المضمون، وتجاذبنا أطراف الحديث وقد قضى فيها مدة ويعرف جيدا أساتذتها، وأثنى على قدرتي في اكتساب احترام الجميع حسب ما انتهى إليه من أخباري وخص بالاهتمام رأي البروفسور جيليو، وقال إن صرامته العلمية تجعل من الصعب الحصول على تزكية كالتي سمعها منه عن شخصي الضعيف.
تناولنا كالعادة طعام الغذاء معا ثم مضى بعد ذلك كل إلى غايته، وتواصلت مع عدد من الأصدقاء فمضت الأيام بسرعة عدت بعدها إلى إكس وتواصلت مع البروفسور جيليو ونقلت إليه تحيات أستاذي البروفسور أندريه رومان فاغتبط وأخبرته عن نيتي إنهاء ترجمة فصل من أطروحته عن الطبري وكتاب الوجيز في ذكر المجاز والمجيز ومقالة جورج فاجدا عن الكتاب فسر ورحب بي في أي وقت.
كان البحث المترجم أقرب الأعمال إلى الانتهاء واستغرق ذلك أياما معدودات بمساعدة البروفسور في توضيح بعض ما أشكل من عبارات ومعلومات. ولما تم لي ذلك بادرت على الفور بإرساله إلى مجلة «المورد « العراقية وصدر في 19 شباط (فبراير) 1990م بعنوان «الطبري، تحصيله العلمي»
ثم استكملت ما ينتقص من التراجم والتعاليق في كتاب الوجيز في ذكر المجاز والمجيز للسلفي وأرسلته إلى الشيخ الناشر المثقف صاحب دار الغرب الإسلامي الحاج الحبيب بن مسعود اللمسي (1930-2017 م) يرحمه الله، وصدر الكتاب عام 1990م، وعلمت في وقت لاحق من الحاج اللمسي في الرياض أنه كان عرضه على العلامة الدكتور إحسان عباس فأقره رحمه الله. وصدر في عام 1990م أيضا. وفي السنة نفسها صدر في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني البحث الذي كتبه المستشرق جورج فاجدا عن كتاب الوجيز. وتلقيت قبل انتهاء الإجازة رسالتي التي سلمتها لأستاذي مع كثير من الملاحظات والاستدراكات التي تحتاج وقتا للأخذ بها، ثم كانت لي بعد استلامها مكالمة طويلة معه وضح فيها بما لا مزيد عليه ما ينبغي تصحيحه واستدراكه. كانت لي بعد كل هذا استراحة امتدّت عشرة أيام في مزرعة في ريف مدينة إكس تملكها إحدى صديقات السيدة بارون، وكانت الصديقة قد غادرت المزرعة قبل انتهاء الإجازة لارتباطات خاصة. أوصلني سائق السيدة إلى المزرعة وأخبرتني أن الثلاجة فيها ما يكفي من طعام للأيام التي سأقضيها هناك.
كانت فرصة لاستعادة اللياقة البدنية والنفسية ومتابعة العمل على إنهاء رسالتي وتسليمها لإحدى موظفات النسخ على الحاسوب رشحها لي صديقي كجة لدقتها ومستواها اللغوي الراقي، وما زلت أذكر اسمها لما قدمته من عمل متقن في الطباعة والتنسيق والتصحيح، كان اسمها مارتين أندريو، وبعد أن رأت الرسالة قالت إنها تحتاج إلى شهرين من تاريخ التسليم واتفقنا على الأجر.
مرت الأيام سريعة وبدأ العام الدراسي وكان هناك إقبال على برامج اللغة العربية، وكان برنامجي موزعا بين برنامج ماجستير الدراسات اللغوية لطلاب الاقتصاد وطلاب قسم اللغة العربية في مادة المكتبة العربية كما كان الأمر في السنة الفائتة.
ولنا لقاء.