د.نادية هناوي
يشير تاريخ سرد الحيوان إلى أن المؤلفين كانوا يكتبون قصص الحيوان لأغراض الهجاء السياسي والتعبير الرمزي مختفين وراء الحيوان ليكون هو المعبر عن دواخلهم بيد أن هذا النوع من سرد الحيوان اتجه اتجاهات جديدة، تدفع نحو مزيد من البحث في دور الحيوان في الأدب.
هذا ما يطرقه ديفيد هيرمان وجويلا جاكوبس في كتاب( علم سرد الحيوان)2020 وافتتحه هيرمان بدراسة مهمة عن اوتوبوغرافية سرد الحيوان. وكتبت جاكوبس (تصوير السرد الحيواني).
وعدت دراسة ديفيد هيرمان بمثابة نقطة مرجعية لكل المساهمات البحثية التي تلتها؛ ففي هذه الدراسة، وضع هيرمان معايير السرد السيري الذي يتجاوز نطاق الإنسان إلى الحيوان وأنماط هذا السرد وآليات تحليله. وجاءت دراسته على رأس الدراسات التي اشتمل عليها هذا الكتاب، واندرجت في القسم الأول منه والمخصص لمفاهيم علم سرد الحيوان، ومن المفاهيم التي وظفها هيرمان في هذه الدراسة(السارد الحيوان، التخييل واللاتخييل، أدب الأخلاق،سرديات الذات)
وطرح هيرمان في مقدمة الدراسة أسئلة حول الكائن الحي والتمثيل السردي لذاته، وإلى أي مدى يمكن للحيوان التعبير عن ذاته؟ وإذا كانت السيرة الذاتية نوعا سرديا، فهل تكون سيرة الحيوان الذاتية بالضرورة مشروعًا سرديًا خياليًا ؟ وهل يكون للقصص غير البشرية أساليب، بها يتمكن الحيوان من استخدام لغة البشر في رواية قصة حياته ؟
يرى هيرمان أن التهجين هو واحد من الطرق التي معها لا يختلف خطاب السيرة الذاتية للحيوان عنه في الإنسان. وإذا قيل إن السيرة الذاتية ليست خيالية لأنها تقص قصة حياة واقعية أي أنها تخبر عن شخص «حقيقي»، فإن الحتمي أيضا هو أن تكون الخيالية عنصرا مهما في بناء النص السيري وكشكل من أشكال تمثيله الذاتي. ومثال هيرمان أفلام الرسوم المتحركة الموجهة للأطفال، وفيها يكون الارتباط العاطفي وثيقا بينهم وبين الحيوان الذي يسرد قصة حياته الصعبة. وهذا ما يضع أسسا سردية جديدة تتجاوز البشر بشكل عام وتخلخل الأطر المرجعية للسرد الذي يتمحور حول الإنسان. ولا يعود كافيا من ثم تصنيف الحيوانات وأنواع أخرى من الفواعل السردية على أنها عناصر غير بشرية. وهو ما يراه هيرمان تصنيفا سطحيا لأنه يمنع من رؤية ما في هذه الأنواع من الفواعل من أهمية، وما لها في الأنطولوجيات الثقافية من مساحة أدبية واسعة تدخل في إطار تمثيل عالم ما وراء الإنسان.
إن تمييز السارد الحيوان عن غيره من أنواع الساردين البشريين في كتابة السيرة الذاتية يعني عبور الحدود المعهودة بين الخيال والواقع عبر اتباع استراتيجيات بديلة تعمل على مستوى الخطاب السردي كلغة ووجهات نظر وتمتد إلى ما هو أبعد من نطاق الإنسان. ومن أجل إعادة صياغة السرد غير البشري والعثور على موطئ قدم في التنظير لهذا النوع من السير الذاتية، يقترح هيرمان النظر إلى التفاعلات السردية التي تجري وجهًا لوجه وتصطف فيه بانتظام الفواعل بعضها مع بعض في عملية إنتاج الكلام واستقباله من أجل معرفة طبيعة التفاهمات المشتركة بين المتكلم والمتلقي في خضم ما يجري من أحداث أو حوارات أو وجهات نظر. غير أن مفهومي المتكلم والمتلقي هنا ليسا دقيقين –كما يرى هيرمان- للتعبير عن سرد فيه الإنسان مشارك في خطاب يسرده فاعل حيوان، له مشاعر يعبر عنها وألفاظ ينطق بها، ومن خلالها يشير رمزيا إلى أفكار أو معتقدات بعينها ويستعمل ضمير الأنا وأفعال الاستشراف والتمكين («سوف / يمكن»)، وأفعال الشرط وأدوات الاستفهام ويفسر ويصحح ويعلق موجها خطابه إلى متلق بشري مشارك أو غير مشارك، وضمن إطار تفاعلي شبيه بما يفعله الناس حين يتحدثون مع بعضهم بعضا -مباشرة أو بالنيابة- عن شخص آخر؛ يقول هيرمان: ( إن السيرة الذاتية الحيوانية تركز على الوضع العام الهجين للسيرة الذاتية نفسها، مستفيدة من طبيعة البنية السردية، ومرونة ما يمكن استعماله فيها من أساليب - واقعية وغير واقعية – مما يتصل بوصف أحداث عالم قصصي معين) ، ويرى هيرمان أن دراسة هذا النوع من السيرة الذاتية التي فيها تتقاطع أنواع الكلام، تتطلب واحدا من منهجين أو الاثنين معا هما التأطير والتأسيس، وفي نوعين من السيرة الذاتية:
أولا: سيرة الحيوان الذاتية غير الخيالية وفيها يركز الكلام في المقام الأول على الواقع المعيش كتجارب حياتية وأنماط سلوكية هي معتادة بالنسبة للحيوان السارد بعيدا عن الترميز والألغاز ويكون منهج التأسيس هو المتبع في دراسة هذه السيرة بوصفها مختلفة تماما عن النموذج البشري.
ثانيا: سيرة الحيوان الذاتية الخيالية وفيها يكون الكلام عن تجارب الحيوان الحياتية ترميزيا، ويصلح مع هذه السيرة منهجا التأسيس والتأطير.
واتخذ هيرمان من المجموعة القصصية ( الحيوانات فقط only the animals)2014 للكاتبة الجنوب افريقية سيريدوين دوفي (1980- ) مثالا تطبيقيا للسرد السيري الذي فيه الحيوان هو السارد الذي يحدد للإنسان فاعليته ويتولى توجيهه. وفي كل قصة من هذه القصص يسرد الحيوان قصة حياته بعد وفاته، واصفًا المواقف والأحداث التي مرت به على مدار حياته وصولا إلى لحظة السرد الحالية، وخلال ذلك السرد، تكون العلاقة مزدوجة أو ذات طبقات ما بين المؤلف الذي كتب النص، والسارد الحيوان الذي يحكي تجربته وتجارب الأشخاص الذين عرفهم وكانت له علاقات بهم وتواصل معهم وجهاً لوجه، وما يرافق ذلك من ردود أفعال وسياقات كلام تتطلب من هذا السارد شرحا أو تبريرا أو تمثيلا سرديا.
إن مثل هذه القصص غير الواقعية توسِّع نطاق التخمين حول ما قد يقوله الحيوان – الذي له ثقافة مختلفة، وقد يكون قادما من عالم خارجي إلى كوكب الأرض - عن شؤون حياته مسترجعا أو مستبقا الأحداث ومظهرا نفسه بشكل واقعي وإنساني كسارد ذاتي يقدم وصفًا خياليًا، سواء تمكن بكلامه من عبور حدود النوع البشري أولا. وهذا هو (سرد ما وراء الإنسان) وله طرائق خاصة في بناء السيرة الذاتية ووظائف السارد الحيوان بضمير الأنا، ويرى هيرمان في هذه الطرائق ما يفتح المجال لمزيد من الأبحاث حول الفهم الثقافي للحيوان والتفاعل بينه وبين الإنسان.
ويختم هيرمان دراسته بدعوة الباحثين إلى أن يتوجهوا( نحو علم سرد ما وراء الإنسان ) أولا لما تجسده السيرة الذاتية من أنواع مختلفة من الكلام البشري وما بعد البشري، وثانيا لتقاطع سيرة الحيوان الذاتية في مفاهيمها وأبنيتها وعلاقاتها مع الوضع السردي المعهود للسيرة الذاتية التي فيها المؤلف والسارد بشريان. وثالثا لما تحتاجه السيرة الذاتية المنسوبة إلى رواة غير بشريين من أطر بحث تناسبها من ناحية اللغة وتحليل الخطاب وتحديد الوظائف وافتراضات أخرى أوسع تتعلق بصفات الحيوانات وقدراتها.
ولا شك في أن هذا الاتجاه الجديد هو جزء من مشروع ديفيد هيرمان في تطوير علم السرد ما بعد الكلاسيكي، وفيه يتطلع إلى بلوغ إجابات عن أسئلة علماء السرد حول طبيعة العلاقة بين الإنسان والحيوان وحدودها ضمن المحيط الحيوي العام. وما لتعدد التخصصات وتبادل المعارف ما بين الفنون والعلوم الإنسانية ومنهجيات التحليل البنيوي والسياقي من دور في الاقتراب من فهم تلك العلاقة فهمًا ثقافيًا.