د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
[2-3]
سادساً: المَخرَج لتصحيح هذه الحال.
- تقول العرب: مَن سَلَك الجدد أمن العثار.
والصَّواب في أمر ذلك أن تكون معالجةُ إشكالات الكتابة -إن كانت- والرَّغبة في التَّجديد بتقليل الاستثناءات أن يكون ذلك بمسوِّغات علميَّة وأسبابٍ معتبرة ومقنعة، على أن يكون ذلك في غرفٍ مخصَّصةٍ لأناسٍ مختصِّين أعني علماء ذوي تخصُّصٍ، في جلسات خاصَّة، تقوم بها مؤسسات علميَّة كبيرة كالمجامع اللغويَّة والمراكز العلميَّة المتخصَّصة في العربيَّة وعلومها؛ لأنَّ الأمر إحداث في شأنٍ لغةٍ مقدَّسةٍ لها أرث محفوظ وملفوظ ينيف على ما يزيد على (2000) ألفَي عام أو يزيد، ومدوَّنات تطوي (1000) ألف عامٍ أو تزيد، ومطبوعات جاوزت (200) مائتَي عامٍ، فلا يعبث فيها بنزواتٍ وحبِّ ظهورٍ وتجديدٍ فرديٍّ، يُقطع به بعد جيلٍ أو بعد جيليَن صلات وصل الخلف بما كتبه سلفهم، وما طُبع في غير زمنهم، ويصبح لا يوصل ما بينهما إلَّا بترجمان، وقديماً قيل: الأقلام تنوب عن الأقدام يعنون بذلك الكتابة إذ هي صلة ولقيا من غير مواجهة بالأجساد.
سابعاً: نماذج ومُثُل.
أيُّها القرَّاء الكرام دونكم الكلمات ذوات المشكلات عتيقها وجديدها، من عتيق مشكلات الرَّسم رسم (صور الهمزة المتوسِّطة، وصور رسم الألف المتطرِّفة)، وجديد المشكلات أو تجديدها، منها: («أنتِ، كتابكِ» الكسرة ترسم بالياء فيهما= أنتي، كتابكي)، و(لكن، وأولئك، وأولو، وأولات= لاكن، ألاإك أو إلائك أو ألئك، أُلو، أُلات)، و(هذه، وهؤلاء= هاذه أو هاذهي، هاأولاء أو هألاء أو هاألاإ)، و(عمرو= عَمر)، و(هيئة وحطيئة= هيأة، حطيأة)، و(رجاء، كفء، تكافُؤ، منشئ= رجاأ، كُفْأ، تكافُأ، منشِأ)، و(تسعمائة وثلاثمائة= تسع مئة، ثلاث مئة)، و(«موقوفةٌ، مرفودةٌ» تاء التَّأنيث سجعةً ترسم هاءً وتضبط بالسُّكون= هكذا: موقوفهْ، مرفودهْ؛ أي: معاملة النَّثر بمستجازات الشِّعر والقافية).
إنَّ مشكلتَي الهمزة والألف المتطرِّفة عولجتا قديماً، وأمَّا حديثاً فقد انتهى أمرها إلى اختيار وجهٍ ممَّا فيه وجهان مثلاً، وأصبح مشهوراً الأخذ به في بعض الأقطار يمايز به بعض الأقطار من بعضٍ، ويكون هو المعتمد من صور الرَّسم ممَّا فيه اختلاف في بلدٍ ما، وهو ما يقرُّ عندهم في الطِّباعة والتَّعليم.
والهمزة كانت من أوائل ما عولج في مجامع اللغة العربيَّة في القاهرة وفي دمشق ضبطاً لمسائلها، وتيسيراً على الدَّارسين، وإصدار قرارات، ونشر كتب خاصَّة بالإملاء، وللإملاء لجان خاصَّة كما في المجمع القاهريِّ، وكذلك لغيرهما جهود أفراداً ومؤسَّسات أمثال جهود المركز العربيِّ للبحوث التَّربويَّة لدول الخليج العربيِّ.
ثامناً: عَوداً على بَدءٍ.
إنَّ التَّجديد حميدٌ إن حسن استعماله، قبيح إن أسيء استثماره، ومن الجديد -وأراه قبيحاً- وإن بدا ظاهره حسنٌ هو محاكمة النَّثر محاكمة الشِّعر، ومعلوم أنَّ للشِّعر مجازات يجتاز فيها قيود التَّركيب وعنت اللفظ ارتماضاً إلى سعة المعنى? وانسراح الشُّعور، لذا أُبيح له ما هو ممتنع في النَّثر، فالشِّعر بابة اضطرار والنَّثر مشرعة اختيار.
وجديد الطَّابعين هو معاملة حرف السَّجع في الكتابة كمعاملة حرف الرَّويِّ، وهذا حادث جديدٌ في الطَّباعة، وهو وهم سرى إلى الكاتبين والطَّابعين من سوء فهمٍ، بله هو غير معتمدٍ على أصولٍ صنعة الكتابة، وهذا الأمر يظهر أفوله وفيوله عند عراضه على الأصول الكتابيَّة، وسترى؟ ذلك ( )، يُستبان أمرها فيما يُراعَى? في الرَّسم والكتابة أهي حال الوصل أم الوقف؟
وأمر السَّجع وأنواعه وأمثلته، وقد كان له ذكر في كتب متأخِّري علماء العربيَّة، وهو أمره يُتلمَّس له سببٌ، ذاك أنَّه أثر من آثار ذلك العصر الَّذي ظهر فيه هذا التأليف كما ورد عند السَّكَّاكيِّ (ت 626هـ)، وتابعه عليه الخطيب القزوينيِّ (ت 739هـ)، وحقيقة أمرهم عند التَّأمُّل إن هو إلَّا نطقيٌّ، وهو ممَّا عدَّده القلقشنديِّ (821هـ) في صبحه، والمتأخِّرون من المصنِّفين على عادتهم يجمعون ما قفوا عليه وما وصلهم من جهد أوائلهم، ويدوِّنون ما عاصروه وما ألِفوه في زمنهم، فقد كانت عصور الدُّول المتتابعة عصورَ انتشار السَّجع وفشوِّه، والتزامه في الكتابة التزاماً متكلَّفاً؛ لذا دخل في أحكام الكتابة في عصرهم باعتباره معالجةً لما هو ظاهر في زمنهم، ولا تجد لذلك ذكراً في كتب المتقدِّمين.
إنَّ أمر الكتابة العربيَّة لهو عتيق، ليس جديداً قابلاً للإزالة والإزاحة، ولا ميداناً أُنفاً لينتجع بالتَّجديد، بل مضت له قرون تلو قرون مستمرّاً مستقرّاً إلى أن أشرقت الطِّباعة في الشَّرق، ونهض العالم العربيُّ مفجوءاً مفجوعاً على المطابع والطِّباعة، وقد نفض عنه غشاء الرَّقدة وغطاءها الَّتي استطال أمدها.
وبدأ عصر النَّهضة وبدأت المطابع تزفُّ المطبوعات إثر المطبوعات، ومع هذه النَّهضة والنَّف ضة كانت الكتابة والطِّباعة بإشراف علماء كبار، تلاهم المحقِّقون الكبار، ثُمَّ تلامذتهم المبرِّزين، واعتنت بالكتاب طباعةً وتحقيقاً من بعدُ الجامعات، نشراً علميّاً وجهوداً أكاديميَّةً، إلى أن جاء زمننا هذا نخطو إلى منتصف القرن الخامس عشر الهجريِّ، فالآن قد أصبح التَّحقيق والطِّباعة مشاعاً للجميع لمن هَرَجَ ودَرَجَ، وفي هذا الزَّمن فغر التَّجديد فاه. اللهمَّ إنَّنا نستعيذك لذوي العلم من التَّعالُم، ونسترحمك للجاهِل من عدم التَّجاهُل.
[متبوع]