محسن علي السهيمي
إذا كانت الثقافة تعني الأخذ من كل فنٍّ بطرف فإن الدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي لم يكتفِ بتحصيل أطراف الفنون وحيازتها على أي صفة كانت وفي أي ثوب جاءت؛ وإنما عمد إليها فاستخلص أجمل ما فيها وأطيب ما تكتنزه، وانتخب منها الأجمل واصطفى الأكمل، ثم عمد إلى إعادة تدويرها وإخراجها للمتلقي في حلة من البهاء تعكس روح الجَمال المكتنَزة في دواخله، وتعكس الرغبة الصادقة لديه في إعطاء المتلقِّي صورًا باذخة الجَمال لماهية الثقافة وأدوار المثقف تعكس حجم الاعتزاز بالمبدأ والمنهج. الكتابة عن شخصية بقامة الدكتور إبراهيم التركي لن تأتي على سيرته الحافلة ومسيرته المحفوفة بالتعب والنجاحات والتميز في مواقع عديدة شغلها بكل طاقاته وإمكاناته، وقدَّم من خلالها صورًا ناطقة بالإبداع تعكس حالة الشغف لديه ودرجة الإتقان التي يتعامل بها في كل موقع ومهمة توكل إليه، حتى غدا اسمًا بارزًا في الوسط الثقافي والإعلامي محليًّا وعربيًّا؛ فقد عرفناه مذيعًا يأسر المتلقي بعذوبة صوته وفرادة نبرته وسعة ثقافته وسلامة لغته، لذلك فأنت حين تستمع له من خلال المذياع أو في لقاءاته الصوتية أو المرئية عبر الوسائط المختلفة فأنت لا تستمع له بحاسة السمع فقط؛ بل تعيش معه تفاصيل اللحظة وتضع حواسك كلها في لحظة إطراق واستغراق وإنصات لهذا الصوت الآسر المتدفق عذوبة وفصاحة وثراءً معرفيًّا وقدرة على تسلسل الأفكار وانتقاء المفردات الرائقة. وهنا أذكر موقفًا حصل لي مع صوته؛ فقد ترك إذاعة الرياض منذ فترة طويلة بعد أن أَلِفْنا صوتَه من خلالها، لكنَّ صوته ظل ملازمًا لذاكرتنا الجمعية، حتى كنت ضُحى يوم -قبل حوالي خمس سنوات- في السيارة ففتحت المذياع فإذا بصوته يتدفق عذبًا نديًّا، فجلست أُصغي إليه بكل حواسي مستمتعًا ومتأملًا ومتسائلًا عن سرِّ عودته للإذاعة، وقبل انتهاء البرنامج اتصلتُ عليه لأسأله عن حضور صوته في الإذاعة، أهي عودة جديدة؟ أم أن في الأمر لَبْسًا؟ فقال لي إن الذي استمعتَ إليه إنما هو برنامج قديم أُعيد بثه. وإنْ قرأتَ له فأنت تقرأ مقطوعاتٍ مطرزة ببهاء البلاغة وجماليات الكلمة، وتقرأ منطقًا فلسفيًّا في قطعة نثرية بديعة مكتنَزة بكَم وافر من الثراء المعرفي سواء في مقالاته المنثورة في الصحف والمجلات والمواقع أو في مؤلفاته الرصينة أو حتى في تدويناته ومقاطعه على حساباته في منصة (x) ومنصة (فيسبوك) وغيرها. أما حين نلتفت إلى مسيرته في العل الصحفي والثقافي فتلك مسيرة تطول، لكن يكفي أن نعلم أنه جاء إلى الصحافة عاشقًا وكان يملك من الإمكانات ما يؤهله ليصنع الفارق في أي مؤسسة صحفية ينضم إليها، وقد كان أحد أطناب صحيفة الجزيرة العريقة خلال مدة شارفت على أربعين عامًا.
من المعالم البارزة في مسيرته في الصحافة الثقافية هو قيامه -فواتحَ الألفيةِ الجديدة- وفريقُ عملِهِ على مجلةٍ ثقافيةٍ جديدةٍ (الجزيرة الثقافية) أصدرتْها صحيفة الجزيرة في زمنٍ مالتْ فيه شمسُ الصحف -في شقها الورقي- للغروب، وبدأ المثقفون ينفضُّون عن مورد الصحافة الثقافية، ومع كل هذه المثبطات إلا أن الجزيرة الثقافية انطلقت ووصلت للمتلقي في أجمل حلة وأبهى صورة، وهو الأمر الذي جعل المثقفين يغيِّرون بوصلة اتجاهاتهم ويعودون إلى مناهل الثقافة الأصيلة من خلال الجزيرة الثقافية وغيرها. ظهور الجزيرة الثقافية أغرى المثقفِين بالحضور من خلالها، وهو ما جعلني أتواصل معها، فكان أنْ نشرتْ لي عددًا من القصائد خلال سنواتها الأولى، وذات مرة أرسلتُ لها قصيدة فتأخر نشرُها، وكنت كلما تواصلت مع المحرر يُفيدني بأنها تنتظر دورها في النشر وهو الأمر الذي دعاني لمراسلة الدكتور إبراهيم على بريده الإلكتروني -لم يكن جواله عندي حينَها- بخطاب قلت فيه ما معناه (إن كنت ترى أن القصيدة تستحق النشر فتتكرم بنشرها وإن كانت لا تستحق فضعها في أقرب سلة مهملات)، فكان التجاوب منه عاجلًا حين رد بكل ذوق وأثنى على القصيدة وقال حتمًا ستكون منشورة في العدد القادم، وقد أوفى بما قال. من يومها والتواصل بيننا حاصل، وصدره مفتوح لكل رأي، والجزيرة الثقافية تحتفي بقصائدي ومقالاتي بكل محبة وتقدير وماتزال كذلك حتى بعد أن غادرها، ولذلك كان لمغادرته الجزيرة الثقافية أثر بالغ في نفوس المثقفين الذين كتبوا عنه -شعرًا ونثرًا- ما يجسد عظيم تأثرهم لمغادرة قامة ثقافية إعلامية فاعلة الوسطَ الصحفيَّ، وهو الأمر الذي استنزل مني قصيدة عنوانها (مَرفأُ الضَّادِ) نشرتْها صحيفةُ الجزيرة حينَها ثُم ضمَّنْتُها ديواني (تعاويذ القُرى) الصادر أخيرًا عن أدبي مكة، وهي اليوم ضمن محتويات الكتاب الذي أصدره الروائي الصحفي جابر محمد مدخلي عن الدكتور التركي وعنونه بـ(الاستثناء مجددا – إبراهيم التركي.. مسيرة وسيرة) جاء فيها:
لَئِن أَنَخْتَ المَطايا وهْيَ قادرةٌ
فحرفُكَ اليومَ فِينا سيلُهُ عَرِمُ
وللمُحبِّينَ في أخلاقِكُمْ مَثَلٌ
ومن بيانِكَ أحْلى القولِ ما عَدِمُوا
الضَّادُ والنُّبلُ والأخلاقُ شاهدةٌ
والحرفُ يَشهدُ والأقلامُ والقِيَمُ
رياضُ فكْرِكَ في أرواحِنا بُسِطتْ
وظلُّها وارفٌ والشوقُ مُضْطرِمُ
فجيعةٌ أنْ تُرى قد مِلْتَ عن شَغَفٍ
وأنتَ مَن أنتَ فيهِ الهامُ والهَرَمُ
لا أجد وصفًا يقارب حالة الدكتور إبراهيم التركي إلا أن أستعير ما وصفه به رئيس تحرير صحيفة الجزيرة الأستاذ خالد المالك وهو يودِّعه حينما كتب عنه:
لم يكن كاتبًا..
ولا صحفيًّا..
لم يكن إعلاميًّا..
ولا مدير تحرير..
لم يكن مثقفًا..
ولا ناقدًا..
ولم يكن شاعرًا..
أو كاتب رأي..
كان كل هذا وأكثر..
ما تجدر الإشارة إليه هو أن الدكتور إبراهيم لم يرهن فكره لتيار أو توجه؛ بل كان يقف على مسافة واحدة من الجميع، وكما كان قلبه يتسع لكل الأطياف فكانت الجزيرة الثقافية تستوعب كل الآراء وماتزال، وهو وإن كان ذا أسلوب فريد في لغته المسموعة والمكتوبة يميزه عن غيره، ففي المقابل له مؤلفاته الوافرة ذات القيمة العالية، وهو شاعر يطوِّع المفردة ليَنْظِم منها عقدًا فريدًا. كل هذه السمات وكل هذه المعالم في شخصيته تستحق (منه شخصيًّا) أن تنتظم في (سيرة ذاتية) تجمع شتاتها وتغدو مرجعًا وموردًا للأجيال تحكي عن شخصيةٍ أحبَّتِ العِلمَ وإلإعلامَ والثقافة والنفعَ وسموَّ الأخلاق والتوازنَ وأخلصتْ لها، فكانت شهدًا ثقافيًّا سائغًا وشاهدًا أمينًا على مرحلة ثقافية ساخنة وحراك ثقافي متعاظم في مشهدنا الثقافي.
أخيرًا.. وافر الشكر للأستاذ جابر مدخلي على هذا الوفاء وهذا العمل الذي خدم به المثقفِين وحقق غاياتهم في تكريم شخصية إعلامية وثقافية بارزة بهذا السِّفْر الخالد الذي أصدره عن الدكتور إبراهيم، والشكر لأدبي جدة الذي تبنَّى هذا الإصدار تقديمًا وطباعة، ولأدبي القصيم وأدبي الرياض اللذَين شاركا في حفل التكريم الذي أُقيم الأربعاء الماضي في أدبي القصيم.