د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
وما زال أثير البداية للعام الدراسي الجديد يحيطنا،فأرجو ألا يأخذكم الظن من خلال عنوان المقال أن حيوان المها العربي ذلك الظبي الجميل الأبيض؛ سوف يستقبل أبناءكم عند بوابات المدارس، كما أرجو ألا تستزرعوا حقولا من الخيال ربما لا تروق لكم نتائجها، والموضوع لا يعدو إلا أنني تذكرت قصيدة «عيون المها» التي كانت نتاج تحول إلى بيئة جميلة، أحيط بها شاعر بدوي، فاعشوشب خياله، وسمت نظرته للحياة، وتعلم الذوق، واغدودق فكره، ذلكم هو الشاعر العباسي علي بن الجهم الذي قذفت به البادية إلى بلاط الخليفة المتوكل، إلا أن شاعريته لم تجعله بمنجى عن الإخفاق، حيث حمل وعثاء البادية، ودخل إلى بلاط الخليفة مادحا:
أنت كالكلب في حفاظك الود
وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا
من كبار الدلاء كثير الذنوب
فعرف الخليفة المتوكل قوة الشاعر ومقصده، مع خشونة لفظه، لأنه وصف كما يرى، فأمر له الخليفة بدار حسنة على شاطئ (دجلة) فيها بستان يتخلله نسيم لطيف، فأقام فيها ستة أشهر، ثم دعاه الخليفة لينشد شعراً فقال قصيدته الجميلة:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
سلوت ولكن زدن جمرا على جمر
سلمن وأسلمن القلوب كأنما
تشك بأطراف المثقفة السمر
وبعد سرد طويل على شاكلة تلك الأبيات الجميلة، قال الخليفة المتوكل لمن حوله: أوقفوه أخشى أن يذوب رقة ولطافة!
وربما باعدت بين الأسفار ولكني عقدت صلة وثيقة بين بيئة الشاعر الجديدة الجاذبة الوافرة التي صقلت شاعريته وهذبتها وبين بيئات المدارس التي ينبغي أن تصقل نفوس الطلاب وتهذب أخلاقهم وتعدهم لتلقي المعرفة، وصناعة الإبداع.
ولقد أصبحت أخبار الإعداد والاستعداد لبداية جادة وجديدة للعام الدراسي تتوارد أنباؤها!، فقد عرفنا أن هناك وقتاً محدداً تعبأ فيه أعمار الطلاب داخل حجرات الفصول وقد تترمد المعرفة مع هجير المكان في كثير من البيئات، وربما يكون المكان رواقاً يتربص به شح في وسائل إثراء الأفكار التي تستدعي تفاصيل ومساحات من رصافة ابن الجهم التي جلبت له الهوى من حيث لا يدري، بمعنى حوّلته إلى امرئ شغوف بالحياة والإنجاز.
فدفع الطلاب للتعلم يلزم الوصول بهم إلى منصات الجمال، التي تحيطها الجودة والمواصفات العالية، فالبيئات التعليمية ليست طارئة التكوين؛ وليست مخرجاتها بيت شعر جف وجدان قائله فاستبدل بآخر يقطر عذوبة، فتأسيس المعرفة في عقول الطلاب وصقلها يولد في البيئات التي تشرق فيها مغامرات جذابة، وسوف أسرد حزمة من تلك المغامرات داخل المحيط المدرسي ربما تحوّل الطلاب إلى شغوفين وملهمين، وترفع لديهم الذائقة المعرفية، يتصدرها أن تعبر البيئات في تصاميمها عن ثقافة المكان وأهله، لأن الانتماء وقود للوجدان ومحفز للعقل، وأن يكون الأداء التربوي المبدع وأدواته من الأساسات الملزمة، وأن تتضمن المهام التنظيمية ما يطور البيئة التعليمية وألا تكون عبئا عليها، وأن تفضي إلى صحو الأمكنة، ولما أن وزارة التعليم أحدثت منذ نيف من السنين شركة للمباني انغرست في تفاصيل الحكاية برمتها، وذاك حدث بدأ يتسق مع قوة النتائج وجودتها، ومن ذلك ما يتعلق بالمباني المدرسية تخطيطاً وإنشاءً، وتوفير الخدمات الصحية للطلاب، والحراسات الأمنية، والملاعب الرياضية وتطوير الثقافة العامة وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا!
وأختم أن من محفزات البيئة التعليمية الجاذبة دفع أفرادها للبث الفكري المتوازن بفنونه وأشكاله المختلفة حيث يرقى بالعقول والأفئدة، ويستنبت ثقافة مجزية في منظومة العمل لتغليب قوانين المشاركة والشفافية والعدالة وتمكين المؤهلين لتحقيق متطلبات البيئات الجاذبة، والوصول إلى صناعة الحاجة للعلم في ذات المتعلم؛ وهو ما يطلق عليه في المصطلح التربوي (الدافع) وذاك هو مفتاح التعليم الذهبي بلا منازع!