حسن اليمني
لفت نظري في كتاب «فلسفة كارل بوبر» للدكتورة يمنى طريف الخولي الرغبة في تحويل الفلسفة إلى علم أو مادة علمية مستقلة كأداة مختبرية للفحص والتحليل، ولعلي لا أكون مخطئا في الفهم حين أجد صعوبة في قبول الرأي الذي يرى أن الفلسفة نتاج إرث مترسب داخل الوجدان يسوقه ولا يخرج عنه، لا يمكن قبول ذلك كون أن الفلسفة سابقة لعصرها مستحدثة رؤية أشمل وأعمق مما هو مفهوم ومعلوم.
الفلسفة فكر أكثر منها علم، والفكر قدرة واستيعاب في تفكيك المعلومة لما هو خارج النظرية العلمية إلى الابجدية الوجودية الخافية أو المخفية، فتكون الفلسفة هي في ربط المعارف ببعضها بعمق أصلها لتظهر فكرا متقدما لحقائق وجودية تعين وتساعد الرؤية أو النظرية العلمية في التطبيق، ويمكن القول إن الفلسفة أدب المعرفة الموثقة للنظرية العلمية أو الناقضة لها.
الفكر الذي يخترع ويكتشف في الناحية العلمية هو أيضا الذي يقرأ جذور النظرية العلمية ويحلل تركيبتها وجزئياتها في العمق بحسب كمية وغزارة المعرفة، وطبيعي أن المعرفة لاتشترط العلم النظري والتطبيقي، لكن تشترط كفاءة الفكر في النقد والاستنباط من خلال القدرة على تحليل وتفكيك جزئيات ما هو معلوم لدعمه أو هدمه، ويشهد لهذا كثرة نقض الفلسفة لبعض النظريات العلمية وإظهار عيوبها ونواقصها، وبالطبع النظرية العلمية المقصودة هي تلك التي تبحث في الوجود والإنسان والعلاقة بينهما مد وجزر، وكما فصل كارل بوبر بين العلم التجريبي والعلم الزائف أو أشباه العلم.
وبما أن الفكر هو القاسم المشترك لهذا وذاك أو هو المنتج لكلتا الوجهتين أو مصدر المسارين وبما أن الفكر هو المنتج للنظرية العلمية والحكمة الأدبية أو قل العقلانية فإن التبويب يكون بمثابة مخرجين هما العلم والمعرفة، مصدرهما الفكر أي العقل، وبين العلم والمعرفة - كما شرحت يمنى الخولي - يصبح العلم اكتشافا والمعرفة ادراك.
وحين نقتنع أن المعرفة إدراك فيمكن أن نفهم أن الفلسفة فهم ومعرفه، وبهذا الفهم لا نستطيع قبول أن الفلسفة نتاج إرث تراكمي أو إنها محصورة في هذا، لأن ذلك لا يتفق مع المعرفة التي تصبح ذات قيمة حين تتجاوز محيط أو اطار المعلوم والمعروف بكمية ثرية من التنوع الخارج بعيدا عن المعرفة العامة أو المألوفة أو لنقل تلك المتكونة من مشارب معرفة شتى تجمعت في عقل فحص العلاقات فيما بينها وبنى واستخرج معارف جديدة، واذا كان تعريف مصطلح فلسفة يعني حكمة فان الحكمة نتاج معرفة، وبما أن المعرفة ليست علم تجريبي بل فهم عقلي فهي إذن أوسع وأكبر مساحة.
إن أسهل مخرج للعقل العربي للهروب من التفكير هو في رمي التهمة على النظام العربي في حين أن النظم العربية تجتهد بكل قوتها في توسيع مناهل العلم والمعرفة، وحين يتم فتح نوافذ التفكير من قبل أي نظام عربي لمفكريه ومثقفيه تجد أن أولى خطوات النقد تصوب نحو سياسات هذا النظام وكثير ما تجد النظام العربي يمتص هذا النقد ويسعى لتهذيبه من خلال تعويمه بما يزيد جراءة النقد ليصل نقطة الافتراق والتوقف فمن المسؤول؟ المفكر أم السياسي؟.
للإجابة لابد من العودة إلى بيئة الفكر والثقافة وإعادة قراءتها لنجد اننا أمام مسارين فكريين وأستطيع القول إنهما كليهما لا زالا يفتقدان خاصية الصدق والإخلاص مع الذات أو بعبارة ابسط وألين لا زالا مستمرين في الانغلاق على كمية مخزون المعرفة المقلدة أو المتبعة، ولم يظهر بعد فكر متحرر من وهن وضعف القرون الماضية،
والامر ليس بشكل عام، وإنما الغالبية بما أتاح لأشباه المعرفة والثقافة والفكر بروز وعلو من خلال استثمار هذه المعرفة والثقافة والفكر لخدمة الذات والوصول لمكاسب أنانية على حساب قيّم المعرفة والفهم والفكر والثقافة، ووجد قبولا ورضا من النظام العربي كونه خادما مخلصا يدعم المسار والآخر استلج بصمته وانزوى أو أصبح عائقا للمسار فتم تحوله حماية للمسار وترقيته بخطى تستشعر بسعة الاطلاع الالتواء العسر في الرؤى الفكرية لاستثمار مساحة التحرر الفكري بقصور في سعة المعرفة أو الانتصار للعقل على حساب المعرفة الأوسع.