د. جمال الراوي
بعض الناس يعيشون في عزلة تامة عن الآخرين، يتجنبون أية علاقات اجتماعية، يقضون معظم أوقاتهم وحدهم.. لا يزورون أحداً ولا يزورهم أحدٌ.. يعزفون عن التعرف على أشخاص جدد، يقتصرون على معارفهم وزملائهم في العمل.. لا يحاولون التقدم والتطور في مجالات العمل؛ رغم كفاءتهم وقدرتهم على التقدم.. تراهم راضين قانعين فيما هم عليه من حال، وتجدهم متحفظين -بشدة- عند التفاعل مع غيرهم.. يحتمون وراء كلمات مقتضبة؛ لإنهاء أية محادثة أو جدال.. يتحفظون في إبداء أي رأي أو مشورة، وينظرون إلى الآخرين نظرة غير مبالية، تكاد تكون ذات طابع سلبي، تنم عن عدم اهتمام مقيت.. يعيشون حياة رتيبة، ليس فيها أي حراك أو نشاط اجتماعي، لا يبدلون طابع حياتهم مهما تغيرت الظروف وتقلبت.
قد يغبط أحدنا هؤلاء على عزلتهم عن الناس، واكتفائهم بدائرة أصحاب ضيقة جداً، تقتصر على اثنين أو ثلاثة؛ لأن فيهم سمات عدم التصنع في المظهر، أو التكلف في الأمور الحياتية؛ لكنهم يبالغون في انفرادهم وخلوتهم، ويبالغون في تجنبهم الاختلاط بالآخرين بطريقة مفرطة.. لا يحضرون مجالس العزاء، ولا يشاركون في لقاءات أو سهرات، ويمتنعون عن أي نشاط اجتماعي، ولا يرتضون تغيير سلوكهم وطريقة حياتهم؛ فينظر إليهم الآخرون على أنهم غريبو الأطوار، يعيشون حياتهم الخاصة بانغلاق شديد، لا يسمحون لأحد التعرف إليها، أو الدخول في تفاصيلها، وكثيراً ما يراهم الناس غامضين معقدين، وغير واضحين ولا صريحين.
توفي والد أحدهم، وعرفت -بعد أيام- خبر وفاته؛ فعجبت لكتمانه الأمر! سألته عن السبب؛ فقال لي بأنه يمقت النفاق الاجتماعي، لا يريد أن يسمع كلمات التعزية الباهتة الرخيصة، لأنه يعارض كل هذه المظاهر الخادعة المضللة، ويرفض -بشدة- مشاركة الناس بعضهم في مجالس العزاء، التي تبرز فيها صور النفاق والخداع والمسايرة؛ فوجدت في كلامه شيئاً من الموافقة والتأييد، لكنني وجدته يبالغ كثيراً، يخرج عن الأطر الاجتماعية المعروفة والمقبولة، وقد تصادف أن توفي خاله، وكان يحدثني -في السابق- عن معاناته مع مرض مزمن عضال: فسألته: هل اتصل بزوجته للتعزية؟! فرد علي بأن ذلك ليس ضرورياً ولا نافعاً، وأن تعزيته لن تحييي الميت، وقلت له أن جبر الخواطر ضروريٌ في العلاقات الاجتماعية، وبعد إلحاح شديد، اتصل بزوجة خاله، وسمعت كلماته المقتضبة معها، الخالية من أي مشاعر أو اهتمام.
وكنت أحاول مع صاحبي هذا، وأحثه للمشاركة في نشاطاتنا الاجتماعية، والحضور في لقاءاتنا، فقبل -على مضض- حضور إحداها، وليته لم يحضر! فقد حدث -خلال اللقاء- أن اختلف اثنان من الحاضرين، تجادلا وتخاصما، وكاد يتطور الأمر إلى عراك، وتحول اللقاء إلى حالة من الفوضى والهرج؛ فانسحب أحد المتخاصمين وغادر المجلس، ثم عاد الاستقرار والهدوء، لكنه كان سكوناً باهتاً، شعر الجميع بغصة شديدة، وقد تحول المشهد من المتعة إلى الانقباض، وخيم على الجميع الوجوم، وتوقفوا عن الحديث؛ فأمضينا وقتنا المتبقي على عجالة، ثم غادر كل واحد منا بسرعة دون أن يبدي أي رغبة في البقاء أكثر.. وفي اليوم التالي، قابلني صاحبي؛ فبدأ يعاتبني بشدة عتاباً يصل إلى درجات التأنيب والتعنيف، لأنني أقنعته حضور هذا اللقاء!... لم أستطع إيقاف هذا السيل من الملاومة والعتاب، وتركته يقول ما يشاء، لأنني وجدته مشحوناً، كانت لديه رغبة شديدة في إفراغ ما استقر في صدره من غيظ وسخط وحنق؛ فوعدته أن لا أطلب منه -مرة أخرى- المشاركة في أي من هذه اللقاءات.
يقوم الكثير من زملاء العمل بالالتقاء -خارج الدوام- من فترة لأخرى، لقضاء سهرة مشتركة، بقصد زيادة التعارف والألفة بينهم؛ فيصادف أن يتواجد -فيما بينهم- من يشجب مثل هذه السهرات واللقاءات، يصفها بأنها ذات طبيعة مخادعة، تتميز بالمداهنة والنفاق والكلام المعسول؛ فيرفض المشاركة فيها، رغم إلحاح الآخرين عليه، يقولون له بأنهم يريدون الخروج من رتابة العمل وضغوطاته، وأن غايتهم التآلف، حتى يبعدوا عنهم الوحشة، لأنها وسيلة ناجعة لزيادة التماسك والترابط بين أفراد القسم الواحد، لكنه لا يستجب أبداً؛ فيضطرون إلى تنحيته عن أية مشاركة ومخالطة ومعاشرة، وتبقى علاقتهم معه كزميل عمل غامض غريب، يخشون الاقتراب منه، وهذا ما يسبب نفورهم منه وتجنبه.
وفي الحقيقة؛ ليس من السهل تقييم هؤلاء الأشخاص المنعزلين، ومن الصعب الحكم على طريقة الانعزال التام التي اختاروها لأنفسهم؛ إن كانت هي الطريقة الصحيحة في هذا العالم المضطرب، أم أنه لا بد من معاشرة الناس، وتبادل الآراء والأفكار معهم، والأنس بجوارهم، واللقاء بهم؟!.. وقد يغبطهم أحدنا على قلة أعدائهم، وعلى قلة لغطهم وهرجهم؛ فهم لا يغتابون أحداً ولا ينمون، ولا ينقلون كلام الآخرين، ونادراً ما يسمعهم الناس يتحدثون أو يثرثرون؛ فالجدية ترتسم -على الدوام- على محياهم، لا يمزحون، ولا يعلقون على أي مشهد يرونه أمامهم!... وقد كانت لي فرصة الاطلاع على طفولة أحدهم؛ فأخبرني عن قساوة والده وشدته، وخوفه وقلقه الدائم عليه، وأنه كان يتدخل بطريقة مبالغ فيها بحياته، بحجة حمايته والخوف عليه، كان لا يسمح له باللعب أو مشاركة الأطفال الآخرين واللهو معهم!... وكان من الواضح أن هذا الأسلوب الصارم ترك آثاره القاسية على تكوين صاحبي؛ خاصة وأن الدراسة كانت شيئاً مقدساً في بيتهم، تتفوق على أي نشاط آخر!
لا يختلف اثنان على أن مخالطة الناس ومعاشرتهم واجبة ومستحبة، حتى وإن وجد منهم الأذى والإساءة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (صحيح الترمذي للألباني)؛ وفي هذا الحديث تفضيلٌ لمعاشرة الناس، ودعوةٌ للصبر على أذاهم، ومقابلة الحسنة بالسيئة، والعفو عن مسيئهم.. ففي معاشرة الناس يجد المرء منهم البلاء والشدة والأذى؛ إن صبر على ذلك كان له عظيم الأجر والثواب، لأن عدم معاشرتهم ورفض التعامل معهم تجعل الحياة كئيبة مملة، ولن تكون -في أي حال- أفضل ولا أنفع.
هذا مع العلم بأن هؤلاء المعتزلين للمجتمع قد يلجؤون إلى مواقع الشبكة الإلكترونية، ليقتلوا فيها عزلتهم، لا يدرون بأنهم اعتزلوا -من حولهم- عالمهم الصغير، ودخلوا في عالم أكبر وأوسع بملايين المرات، فيه مفاسد وفتنٌ تتفوق بكثير على عالمهم المهجور.
لا شك؛ بأن لكل إنسان مبادئه وقناعاته، يتعامل مع الناس بحسب إرثه التربوي والأخلاقي؛ فتظهر لهم طريقة تربيته، يكتشفون فيه بذرة الخير أو الشر؛ فيعاملونه بالود أو بالنفور.. يأنسون به أو يعرضون عنه.. يشاركونه أفراحه وأحزانه، أو يقاطعونه ولا يدعوه يشترك معهم في علاقاتهم الاجتماعية.. يجعلونه فرداً منهم وفيهم، أو يعتزلونه ويخرجونه من دائرة صداقتهم.. يضعونه فرداً يلجؤون إليه ليعينهم ويساعدهم، أو يهملونه ويبعدونه عنهم.. وتمضي الأيام ليجد هذا المعتزل نفسه يعيش على هامش المجتمع؛ فينساه الناس ويتناسونه؛ فيخسر الكثير، لأنه لم ير الجانب الطيب عند الكثير منهم، لأنه فقد ثقتهم ومحبتهم، ولم يأنس بالقرب منهم، ونسي أن الصبر على أذاهم يعطيه القوة والحيوية، وأن سعة صبره معهم قد تساهم في تعديل مسارهم المضطرب، وتجعلهم يعيدون النظر في تصرفاتهم.