د. جمال الراوي
يسمي علم النفس الاجتماعي الشخصية الانعزالية بأنها شخصية اجتنابية، تحمل اضطراباً نفسياً كامناً، تحاول إقناع ذاتها بأنها أطهر روحاً من بقية الناس، وأطيب قلباً منهم، وجدت في العزلة وسيلتها للحفاظ على تميزها؛ فاختارت العيش في بروج مغلقة، بعيدة عن أنظار الآخرين، تقول بأنها لا تريد التخلي عن آفاقها العليا، وتتجنب مخالطة الناس بسبب حماقاتهم وسفاهاتهم وتفاهاتهم، بينما هذه الشخصية -في حقيقة الأمر- تريد التخلي عن أعباء المخالطة، بسبب عدم امتلاكها القدرة على التأقلم والتآلف، تعيش وحدها، وتموت منعزلة، لا يدري أحدٌ عنها شيئاً.
ويقدر علم النفس الاجتماعي نسبة الانعزاليين في العالم بـ2 %، ويقول بأنهم يمتلكون صفات «التجنبية»، وهم شخصيات قلقة، تتميز بتثبيط اجتماعي شديد، تركن إلى حياتها الخاصة بطريقة غريبة.. ويعدهم علم النفس بأنهم غير جذابين، مصابين باضطراب نفسي مزمن، لا يمتلكون الجرأة الكافية لمخالطة الآخرين.. وبعد دراسة معمقة وجد العلماء أن العامل الوراثي يلعب دوراً أساسياً في تكوينهم، بالإضافة إلى طريقة التربية في صغرهم، على أن الجانب الوراثي هو الأهم، لأنهم وجدوه أكثر تكراراً في الأسرة الواحدة، وسموه « اضطراب الشخصية الاجتنابي» Avoidant personality disorder.
ويلاحظ بأن هذه الشخصية سمة بارزة عند بعض العوائل، يتميز بعض أفرادها أو كلهم بالانغلاق التام، يؤون إلى منازلهم؛ فيغلقون على أنفسهم الأبواب، لا يزورون أحداً، ولا يرتضون معاشرة أحد، لا تسمع عن سهرة أو مأدبة أقيمت في دورهم، فرضوا على أنفسهم عزلة اجتماعية صارمة، لذا يفتقدون إلى الحميمية في العلاقات الاجتماعية، لا يشعرون الآخرين بأي شغف أو مودة، يتسمون ببرودة عجيبة.. وجوههم جامدة، وقلوبهم خالية من أي مشاعر؛ فيهابهم الناس، ويخشون الاختلاط بهم، يعدونهم لغزاً لا يمكن فك أسراره!
في عالمنا نجد بعض أرباب الأسر، ممن يمتلكون هذه الصفة المتحجرة، يعملون ليلهم ونهارهم خارج بيوتهم، وقد أخذ أحدهم معه صفته في الانعزالية، واختار لنفسه عملاً مكتبياً روتينياً؛ فينكب على أوراقه الساعات الطوال، لا يحدث أحداً، ولا يتحدث معه أحدٌ، ثم يعود إلى منزله، ليعود إلى عزلة جديدة، لا يخرج منه إلى أن يأتي الصباح التالي، لا تسمع -خلال وجوده في بيته- صوتاً له، وكثيراً ما تكتشف الزوجة فيه طبع العزلة؛ فتكون فرصتها للسيطرة على البيت؛ فتصبح فيه الآمرة الناهية، بينما المسكين قابعٌ في عزلته وانفراده، لا يسمع ولا يرى، ولا يحرك ساكناً، رغم سماعه صراخ زوجته وشتائمها، ورؤيته لأطفاله يمرحون ويلعبون ويعبثون.
وقد قام علم النفس الاجتماعي بدراسة البعد العاطفي للشخصيات الانعزالية أو التجنبية؛ فوجد أن القيود التي وضعها أصحابها في حياتهم الاجتماعية والعملية تعود إلى حاجتهم إلى الأمن؛ فأحدهم يفتقد الأمان داخل نفسه، لا يشعر بأي طمأنينة أو سكينة أو سلام، يجد في العزلة حماية له، وغالباً ما تكون لا إرادية.
وتختلف عزلة الشخصية التجنبية عن العزلة المتعمدة التي يختارها المرء لنفسه، حماية من الفتن، وهي عزلة دعا لها الرسول صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه-، بعد أن وصف له الرسول صلى الله عليه وسلم الفتن التي ستأتي على الناس، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «...تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟! قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».
في حقيقة الأمر؛ تظهر عند معظم كبار السن أعراض الشخصية التجنبية، نلاحظها عند الكثير منهم، نجدهم منعزلين في أحد أركان البيت، بعد أن فقدوا الاهتمام والرعاية من قبل الآخرين؛ تتجاذبهم الوساوس، وتنتابهم الأوهام، لأنهم يشعرون بعطالة أنفسهم، وبعدم قدرتهم على العطاء، يعرفون بأنهم أدوا واجبهم، وانتهى دورهم، ويدركون بقرب نهايتهم، وأنه لم يعد لهم في الحياة نصيب، يعرفون بأن ما ينالونه من عناية ليس إلا جبر خاطر لأنفسهم التائهة، وهذا ما يزيد الاضطراب داخلهم؛ فيتقمصون دور الشخصية التجنبية في كره الذات، والشك في الآخرين، والشعور بأنهم أقل شأناً منهم.
ويمكن القول بأن معظم المصابين باضطراب الشخصية التجنبية يشعرون بأنهم غير جذابين، يتملكهم رهابٌ من المجتمع؛ فيصبحون مترددين حائرين، لديهم حساسية مفرطة تجاه النقد، لا يتحملون أي ملاحظة أو إشارة أو تنبيه، صدورهم ضيقة، وطبعهم حاد، يصفهم الجميع بأنهم أصحاب «خلق ضيق»؛ فهؤلاء -رغم عزلتهم وانغلاقهم- تجدهم يرتكسون بشدة نحو أي نقد، يقطعون علاقاتهم مع الآخرين عند أتفه الأسباب، غير عابئين بما يخلفه تصرفهم من أذى معنوي ونفسي لدى غيرهم، وغالباً ما يتركون لدى من يعاشرهم ذكريات أليمة، بسبب تقلب مزاجهم، وصعوبة التعامل معهم.
ومن الحكمة التعامل مع هذه الشخصيات بحذر شديد، لأن لديهم زوراً وتوهماً مسيطراً، قد يؤولون أي كلمة لتصبح أزمة حادة وقطيعة دائمة.. وقد يرتكسون بطريقة، يتعمدون فيها إهانة غيرهم وإذلالهم، غير عابئين بما يتركونه من ألم وخذلان.. والغريب أنهم لا يتعاطفون مع مصائب غيرهم، يتركونهم غير عابئين بآلامهم وشكاويهم.. تراهم يسيرون في الطرقات، ويعملون في أماكن العمل بعدم اكتراث شديد، وقد روى لي أحد الزملاء بأنه كان مسجى في غرفة طوارئ المستشفى يتألم من ألم بطني، فمر أحدهم بجانبه؛ فلم يعره اهتماماً، ولم يقل له أي كلمة مواساة، مع معرفته بمرضه!
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربةً، أو يقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إليّ من أن اعتكف في هذا المسجد (يعني مسجد المدينة) شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه، و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل» (أخرجه الطبراني)، ويقول أيضاً: «المؤمن يألَفُ ويُؤلَفُ ولا خيرَ فيمن لا يألَفُ ولا يُؤلَفُ وخيرُ الناسِ أنفعهم للناسِ».
وأخيراً؛ فإن علاج هذه الشخصية صعبٌ للغاية، لأنه طبعٌ متأصل، ليس بالإمكان نزعه واستئصاله، ومن الأفضل عدم الإلحاح على تلك الشخصية، وعدم إجبارها على أمر لا تريده؛ فالنفوس الإنسانية تأخذ -في كثير من الأحيان- خصائصها من المورثات (الجينات)؛ فالطبع يغلب التطبع، فالنفس الإنسانية لها سمة موروثة، وسجية تنتقل إليها من والديها، لا يمكن تعديلها أو تحويرها، فالأصالة التي نجدها عند البعض هي -في غالب الأحيان- موروثة مكتسبة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «تخيروا لنطفكم؛ فانكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم» (صحيح الجامع للألباني)، وفي الحديث دعوة حتى يزوّج الإنسان، ويتزوّج من هؤلاء المماثلين له في النسب والمكانة والمعيشة والطباع، ولعل أسوأ صفة -على الإنسان تجنبها- أن تظهر لدى ذريته صفة الانعزالية، بسبب اختياره الزواج من عائلة تترسخ فيها هذه الصفة.