د. تنيضب الفايدي
سقى اللهُ أرضاً لو ظَفِرتُ بتربها
كحلتُ بها من شِدَّةِ الشوقِ أجفاني
الأجزاع جمع الجزع، وهو جزء من الوادي - أي وادٍ كان - وكذلك هو منحنى الوادي، وعادةً يكون متسعاً للشجر والسكن، كما أن الجِزع: قطعك وادياً أو مفازة أو موضعاً تقطعه عرضاً، كما ورد ذلك في لسان العرب، يقول الكبريت: «الجزع منعَطف الوادي ووسطه أو منقطعه أو منحناه، ولا يسمى جزعاً حتى تكون له سعة تنبت الشجر، أو هو مكان بالوادي لا شجر فيه وربما كان رملاً، ومحلة القوم، والمشرف من الأرض إلى جنبه طمأنينة «جزع الأرض والوادي كمَنَع قطعه أو عرضا، والجَزْع: الخرز اليماني الصيني فيه بياض وسواد، تشبه به العين، والتختم به يورث الهمّ والحزن والأحلام المفزعة، ومخاصمة الناس».
وأجزاع طيبة: أجزاع الأودية التي تخترقها، ولا سيما وادي العقيق، حيث كثرت الأجزاع بهذا الوادي، فهناك (العَرَصَةُ الصُغْرَى) وهي حالياً مقر الجامعة الإسلامية، وقصر سعيد بن العاص وقصر الإمارة، (والعَرَصة تعتبر جزعاً) وكذا (العَرَصَةُ الكُبرى) وفيها بئر عثمان والأحياء التابعة له حالياً، وكذا الجرف (يعدُّ جزعاً من الأجزاع)، لذا فإن وادي عقيق المدينة، وكما هو معلوم يسمى: (وادي العقيق حين إقباله على المدينة حتى الطرف الغربي من جبل أحد، ثم يسمى وادي إضم -وادي الحمض- حيث أكثر الشعراء ذكر الأجزاع بهذا الوادي، أي: وادي العقيق ووادي إضم قال الأعشى:
جازعاتٍ بطنَ العَقيق، كما تَمْـ
ضِي رِفاقٌ أمامهن رِفاقُ
وقال العاص بن الربيع:
ذكرتُ زينب بالأجزاع من إضم
فقلت: سقياً لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها اللهُ صالحةً
وكلُّ بعلٍ سيثني بالذي عَلِما
وزينب التي وردت في البيتين السابقين، هي: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشاعر الذي ذكرها هو زوجها أبو العاص بن الربيع، وهو في مكة المشرفة وهي في المدينة المنورة، فقد ذكر الأجزاع من إضم. ولا يختص وادي العقيق - بطيبة- بالأجزاع فقط، بل هناك أجزاع متعددة على وادي الرانوناء (غرب وجنوب قباء وشماله)، حيث تسكن بها فروعٌ من قبيلة الخزرج، وهناك أجزاع على ضفاف وادي بطحان، حيث تسكن شرقه فروعٌ من قبيلة الأوس، وكذا جزع قباء، وما في غربي قباء وقبلتها من الآبار، فماؤه أعذب الأمواه.
وما أجمل ما قيل في جِزع قباء وغيره من أجزاع المدينة؛ لأن ذلك يذكّر بتاريخها. قال الشاعر:
أُمْلياني حديثَ من سكنَ الجِزْ
عَ ولا تكتباه إلا بدمعي
فاتَني أن أرى الديار بطرفي
فلعلّي أرى الديار بسمعي
وإذا رُبط الجِزع بـ(الحمى) ذلك يعني أجزاع المدينة قال الشاعر:
أهَيْلَ الحمى والجزع يهنيكمُ المغنى
وصوتُ القماري والهَزارِ إذا غَنَّى
بَعُدتم فأبعدتم عن النفسِ أُنْسَها
كأنَّ الهَنا لفظٌ وأنتم له معنى
وكلمة الجزع مثيرة للذكرى والشجن لأي شاعر، لأنها منزل الأهل والأحباب، ولأن الجزع يذكّر المحبين بالمدينة المنورة، وقد ذكره حكيم معرة النعمان أبو العلا المعري، حيث يقول:
يا سَاهِرَ البَرْقِ أَيْقِظْ رَاقِدَ السَّمُرِ
لَعَلَّ بِالجِزْعِ أَعْوَاناً عَلَى السَّهَرِ
يَوَدُّ أنَّ ظَلامَ اللَّيْلِ دَامَ لَهُ
وَزِيدَ فِيهِ سَوَادُ القَلْبِ والبَصَرِ
لَو اخْتَصَرْتُمْ مِنَ الإِحْسَانِ زُرْتُكُمُ
والعَذْبُ يُهْجَرُ للإِفْرَاطِ فِي الخَصَرِ
فَالْحُسْنُ يَظْهَرُ فِي شَيْئَيْنِ رَوْنَقُهُ
بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ أَوْ بَيْتٍ مِنَ الشَّعَرِ
والْخِلُّ كالْمَاءِ يُبْدِي لِي ضَمَائِرَهُ
مَعَ الصَّفَاءِ، وَيُخْفِيهَا مَعَ الكَدَرِ
يَا بْنَ الأُلَى غَيْرَ زَجْرِ الخَيْلِ مَا عَرَفُوا
إذْ تَعْرِفُ العُرْبُ زَجْرَ الشَّاءِ والعَكَرِ
جَمَالَ ذِي الأرضِ كَانُوا فِي الحياةِ وهُمْ
بَعْدَ المَمَاتِ جَمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ
وتثير كلمة الجِزع حبّ الموقع أي: حبّ الوطن لارتباطه بالسكن، ولاسيما الخيام قال الشاعر:
وبالجزع حيٌّ كلما عنّ ذكرهم
أمات الهوى منِّي فؤادي وأحياه
تمنيتهم بالأبرقين ودارُهم
بوادي الغضا، يا بُعدَ ما أتمنّاه
وقال:
وبالجانب القبلي بالجزع شادنٌ
له من فؤادي نائبٌ وشفيع
إذا خطرت على خاطري منه سلوة
تعرَّضَ شوقٌ دونها ووُلوع
وقال:
عسى الجانبُ القبليُّ يسري نسيمُهُ
من الرَّوضِ بِالعَرف الذي كنتُ أَعرِفُ
فما اعتَضْتُ عن تلك الرُّبا غيرَ حسرةٍ
عليها ودمعٌ يُستهلُ ويذرفُ
ويقول نصيب بن رباح:
وبالجزعِ من أعلى الثنية منزلٌ
رَحيبُ الفضا صدري به متضايقُ
وإن مروري لا أكلّمُ أَهْلَهُ
أمرُّ من الموت الذي أنا ذائقُ
وماذا عسى الواشون أن يتحدّثوا
سوى أن يقولوا: إنني لك وامقُ
وما أحسن ما قال:
وإني لمشتاقٌ إلى أرضِ طيبةٍ
وإنْ خانني بعدَ التفرقِ إخواني
سقى اللهُ أرضاً لو ظَفِرتُ بتربها
كحلتُ بها من شِدَّةِ الشوقِ أجفاني
كما أن ذكر الحبيب يُعطي للموقع ربيعاً متجدداً، فهذه هند أرادت أن تتجول بين الخيام، وعادةً تكون هذه الخيام في جزع الوادي أي: منحناه فأصبحت أشجار الوادي وترابه شيئاً آخر.. حيث:
ألا إنّ وادي الجِّزْعِ أضحى ترابُه
من المسْكِ كافوراً وأعواده رَنْدَا
وما ذاك إلا أنّ هنداً عشيَّةً
تمشَّتْ وجرَّتْ في جوانبه بُردا
وما أحسن ما قال:
يا يومَنا بالجَزعِ هل من عَوْدةٍ
لَيْتَ الليالي للوِصَالِ تُعيدُ
فهواك لا (يبدي) السلو لطيبةٍ
والله يبدي ما يشا ويعيد
وقال الشاب الظريف:
عفا اللهُ عن قومٍ عفا الصبرُ عنهمُ
فلو رُمْتُ ذكرى غيرِهم خانني الفمُ
وبالجزع أحبابٌ إذا ما ذكرتُهم
شرقتُ بدمع في أواخره دمُ
تجنّوأ كأنْ لاوُدَّ بيني وبينهم
قديماً، وحتى ما كأنَّهمُ هُمُ
ومشبوبِ نارَيْ وجْنةٍ وجنايَةٍ
تعلّمه أعطافه كيف يظلمُ
ألمَّ وما في الركب منَّا متيَّمٌ
وعاد وما في الركب إلا متيم
وليس الهوى إلا التفاتة طامح
يروق لعينيه الجمالُ المنعَّم
خليليَّ، ما للقلب هاجَتْ شجونه
وغادره داء من الشوق مؤلم
أظنُّ ديار الحيّ منَّا قريبة
وإلا فمنها نسمةٌ تتنسَّمُ
قال الشاعر الشريف الرضي ذاكراً السلم والجزع:
يا ظبيةَ البانِ ترعى في خمائله
ليهنكِ اليومَ أن القلبَ مرعاكِ
الماءُ عندكِ مبذولٌ لشاربه
وليس يهنِيكِ إلا مدمعِي الباكي
هبَّتْ لنا من رياح الغورِ رائحةٌ
بعد الرقادِ عرفناها برياكِ
ثم انثنيْنا إذا ما هزّنا طرَبٌ
على الرحال تعلَّلْنا بذكراكِ
سهْمٌ أصاب وراميهِ بذي سلمٍ
منْ بالعراقِ لقد أبعدتِ مرماكِ
كأنَّ عينيكِ يوم الجزْعِ تخبرُنا
عن المحبِّينَ من أسماءِ قتْلاكِ
أقول: لا يوجد مسمى الأجزاع حالياً، بل أصبحت هناك أحياء وحارات، وأصبحت الأجزاع تاريخاً ولا واقع لها حالياً، لكن تجد النفس برؤيتها أُنساً لا يكاد البيان يصفه، ويشاهد من منظرها روحا لا يكاد اللسان ينعته.
بعض المراجع:
أخبار المدينة لابن زبالة، معجم البلدان للحموي، المغانم المطابة في معالم طابة للفيروزآبادي، وفاء الوفا للسمهودي، الجواهر الثمينة للكبريت، ديوان الشاب الظريف، ثقافة الأديب عن آثار ومواقع في بلد الحبيب صلى الله عليه وسلم للدكتور/ تنيضب الفايدي، صيد الذاكرة الباصرة للدكتور/ تنيضب الفايدي، الأودية والآبار في مدينة المختار للدكتور/ تنيضب الفايدي، تاريخ طيبة في خير القرون للدكتور/ تنيضب الفايدي، الأدب يخلد معالم الوطن للدكتور/ تنيضب الفايدي.