هياء الدكان
رحم الله صوتًا غضًا إن تحدث أسكت، وإن تكلم فاق الجميع حلاوة وجاذبية، وإن أمطر بالكلام يهطل بالخير والحب والبهاء؛ وذاك لعمق الكلام، وهدوئه وقلته.
رحم الله الفائزة بالقلوب، الراحلة بصمت، الغائبة الحاضرة، رحم الله القوية الراضية والمحتسبة، رحم الله الزميلة القديرة الجازي بنت سعود آل طالب، صاحبة المجلس الأنيس، والحوار الونيس، والأثر النفيس.
تزاملت معها لسنوات طيلة عملنا بإدارة (إعلام تعليم الرياض)، كانت نعم الزميلة والرفيقة، طيبة الذكر والصيت، هادئة قنوعة صابرة مجتهدة، تُقدر عملها ووقتها، وتحترم الكل فتُحترم بل هي الراقية.
رحمها الله وبارك لها في عمر عملت فيه، ووهبته جل جهدها واستطاعتها، وبارك الله في ذرية طيبة أعقبتها ووالدين كان لهما عظيم الأثر في حياتها.
تقبَّل الله والدها، فقد كانت دائماً تقول عندما يأتي ذكره على لسانها «أبوي جعله في الجنة» مستحيل أن تذكر اسم والدها دون هذه الدعوة، وأسعد الله والدتها الطيبة ووفقها وثبتها وأجزل لها المثوبة هي وزوجها وذريتها وأخوتها ومحبيها.
قبل عامين تقريبًا - كانت الجازي لا تشتكي شيئًا - تعبت بشكل مفاجئ في المساء، وهي في بيتها ونقلت فوراً إلى المستشفى وأُجريت لها جراحة عاجلة، - سبحان من يغيّر الحال - فقد فجعنا بالحدث وصُدمنا جميعًا.
وهي هي تلك الرقدة فالجازي لا تتحرك ولا تستيقظ أبدًا، ولا تشعر بأحد، (لنتأمل أحبتي حالنا مع أنفسنا ومع الناس ولنراجع حساباتنا، ففي هذه الدنيا التي سيتوقف فيها كل شيء فجأة والله المستعان وحده الذي أوصانا بالعمل والبذل للآخرين، وفي نفس الوقت السلامة من الناس بعدم إيذائهم لا بكلمة ولا بعمل ولا في رزق ولا بسر ولا بعلن، وإن حصل بقصد أو بدون قصد نعتذر ونكثر من الاستغفار والعمل الصالح حتى نلقاه «سالمين ومسلوم منا»).
ثم يكتب الله لها - وبأمر من الحكيم الخبير - استعادة وعيها بعد شهر ونيّفٍ - إن صح تقديري - ، فلعل لها درجة عليا والله أعلم لتبلغها بصبرها واحتسابها على ألم المرض واحتياجاته، وليودِّعها أحبابها وتكثر الدعوات والبذل والبر من أهلها وزميلاتها؛ حًباً لها وأملاً في شفائها وتحسّنها، حتى أن إحدى زميلاتها اشترت خروفاً في نهار رمضان المبارك صدقة عنها، وزميلة أخرى طيبة وزعت اللحم على عدد من المحتاجين وغيرهم وأطعمت منه - أحسن الله إليهم جميعاً - ، وأخرى رز وعدد من الأطعمة، وقد كان ذلك في شهر رمضان المبارك، والقلوب مُقبلة على ربها أكثر وأصدق والله حسيب الجميع.
فقد جاء في فضل الإطعام والسقيا الكثير قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام. (رواه الترمذي).، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف. (متفق عليه)، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف. (رواه البخاري) وفي كلٍّ أجر وفي كلٍّ خير.
ثم أراد الله أن تسترد وعيها، وتبقى ما شاء الله لها أن تبقى، والكل يلهج لها بالدعاء الله يلطف بها الرحمن الرحيم الذي بلغت رحمته، ووسعت كل شيء، فكيف بالرحماء الطيبين المحبين أمثال «الجازي - رحمها الله -».
مما تختزله ذاكرتي عنها أنها أسمعتني صوتها عبر ثلاث مكالمات أو أكثر بعد تعبها، وعلى قدر سعادتي ومحاولاتي دعمها على قدر ألمي وهي لا تريد أن تبث شكواها وألمها فقط كانت تقول كلمات قليلة: ادعي لي أخشى ألا أصبر، أنا راضية الحمد لله، الحمد لله، ومتأكدة أن الله سيختار لي الصالح، الحمد لله على كل حال الحمد لله، ثم تودعني بصوتها المتألم بلطف واستودعها الله الرحمن الرحيم الذي لا تضيع عنده الودائع.
كانت - رحمها الله - ذات خلق وأدب حيّية، والخلق والأدب من أسباب دخول الجنة، جعلها الله من أهل الجنان وأعلاها الفردوس يا رب ووالدينا وأنفسنا ومن نحب.
قال - عليه الصلاة والسلام -: (أكثر ما يدخل الناس الجنة، تقوى اللّه وحسن الخلق)، (رواه الترمذي والحاكم). وكانت تسبقها دمعتها إن رأت عاجزًا، أو مراجعة لإدارة التعليم من ذوي الحاجة، فالراحمون يرحمهم الرحمن ويسخر لهم، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول جعل الله الرحمة مئة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه. فكيف بالإنسان، إن رحمة الله واسعة واسعة.
وما هي إلا أيامٌ قلائل على مرضها، ثم يشاء الله بعدها بفترة وجيزة وترحل بسرعة عن الدنيا! نعم ترحل بصمت وتبقى الذكريات.
كم كانت - رحمها الله - تطمح في بناتها الطيبات، وتدعو لهن دائمًا أن يرين ما يسرّهن ويوفقهن إلى كل عمل صالح نافع يستديم الأثر.. كانت رحيمة حنونة تغدق في الحنان والرحمة والشفقة ولاسيما في حضرة الطفل.
وأذكر موقفًا لصغيرها، وهو في عمر الروضة، وكيف كان دائمًا يدخل دراجته لدورة المياه، ويجلس يغسلها مستمتعًا بذلك، وكانت تقول: «أخليه ما قدر أمنعه» مع أن دخول الدراجة سيحدث آثارًا وسيتسخ المكان، ومؤكد أنه سيحتاج إلى تنظيف أكثر، وتقول: «اتفرج عليه خلي ولدي يوسع صدره كل شيء ممكن يتعوض»، وكأني أراها أمامي وهي تروي هذا الموقف وتغلق عينيها وتبتسم.
رحمها الله وأفسح لها في قبرها، عُرف عنها أنه إذا احتاجتها موظفة في أي خدمة فإنها تدرّبها على أي أمر صغير أو أي عمل أو حتى طريقة عمل أي شيء بالجوال، أو أي تطبيق، فإنها تدربها وتعلمها حرفيًا، وتخفّض صوتها ولا تتحدّث عن تلك الخدمة، وإنها فعلت وفعلت أو دربت، أمثالها قليل - رحمها الله - مع أنه لا يضرُّ الإنسان إذا تحدّث بما يفعل، الذي يضرُّ من يقول ولا يفعل، بل ويستهين بقوله غير الحقيقي، وبالناس الذين يعدهم ولا يوفيهم، متناسيًا أن أي وعد يقطعه مع أحد هو وعد مع الله قبل كل شيء، أو من يصعد على أكتاف الآخرين ولا يذكرهم ولا يهتم لأمرهم أو لحزنهم، أو من يتصنَّع مكانة لمجرد الظهور فقط لحب الظهور! وهو لا يقدِّم شيئًا أو لا يعرف حتى أو.. أو.. كل ذلك وغيره سيزول يومًا وتذهب القشور ويبقى اللب الحقيقي: (الذكر عند الناس يشهدون لك بالخير، والأثر والجزاء الأوفى عند علام الغيوب) الذي سنلقاه جميعًا وسنلقى كتابنا وقد كتب فيه كل شيء.. نسأل الله أن يتلقَّانا وملائكته بالبشرى وبواسع رحمته وفضله ويغفر لنا وللجميع، ويسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض يا رب.
لقد رحلت الجازي آل طالب، رحلت وانقضى أجلها وصُلي عليها وعلى عدد من المتوفين، رحمهم الله بجامع الجوهرة البابطين بعد صلاة العصر يوم الأربعاء 7 جماد ثاني 1445هـ الموافق 20/ 12/ 2023م، والحمد لله على كل حال؛ فهو قضاء الله ولا اعتراض.
ربط الله على قلب أمّها الحنون الرؤوم، وزوجها وبناتها وأخواتها وبنياتهن، وأخوات زوجها اللواتي كانت تحبهن، وكل من أحبّها وأحبّتهم، ومن دعا لها وكان في وداعها وأملنا أن الدنيا ليس فيها فراق حقيقي، فالفراق الحقيقي في الآخرة الباقية.
أشهرٌ مرت على رحيلها - منذ ذلك التاريخ لوفاتها - رحلت ورحل معها شريط طويل من الذكريات الدافئة والمواسم المعطاءة، التي امتدت لسنوات من معرفتنا بها، وكأن معرفتها وأيامها والصلاة عليها لحظة! نعم لحظة! وهكذا نحن كلنا لحظة وفي لحظة، فأين كل أيامك الماضية، فلنترك أثرًا طيبًا يخلد المعروف ويرسّخ الخير.
كتبت هذا المقال بعد وفاتها بأيام، ولم أستطع إرساله للنشر حبًا وألمًا، لكن يسلينا الله سبحانه أن ذلك لعله توثيق لبعض من ذكراها، وتقدير لشيء من مسيرتها، رحم الله كل غالٍ وغالية، ورحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.. آمين.