أحمد الدليان
تزخر أرض المملكة العربية السعودية بتاريخ عريق وحافل بالحضارات التي نشأت وتطورت عبر آلاف السنين، إذ كانت المملكة مهدًا لعدد من أقدم الحضارات الإنسانية، ولعبت دورًا محوريًا في تاريخ المنطقة والعالم. كما تميزت بموقعها الجغرافي الاستراتيجي في شبه الجزيرة العربية، حيث كانت قريبة ومتواصلة مع أقدم المناطق الحضارية في الشرق القديم، مثل مصر وبلاد الرافدين. هذا الموقع المميز، إلى جانب خصائصه الفريدة ومقومات الحياة المتاحة، جعل من أرض المملكة بيئة مثالية لنشوء الحضارات وتطورها منذ آلاف السنين. كما كانت ملتقى لحضارات الشرق الأدنى القديم بسبب موقعها المركزي ودورها في التجارة.
الحضارات التي ازدهرت على أرض السعودية تركت آثارًا مادية وثقافية ودينية في مناطق متعددة، مما جذب انتباه علماء الآثار الذين سعوا إلى استكشاف هذا التراث الحضاري الغني وكنوزه. هذه الدراسات والبحوث الأثرية تمكننا من قراءة مراحل التاريخ الإنساني والنشاط البشري على أرض المملكة، ومقارنة تلك الحضارات بالآثار المكتشفة في مناطق أخرى من العالم.
كما كشفت الاكتشافات الأثرية أن الاستقرار الأول للإنسان على أرض المملكة يعود إلى أكثر من مليون سنة مضت، تحديدًا إلى «العصر الحجري القديم». تم العثور على آثار من هذا العصر في مواقع عديدة داخل المملكة، مثل موقع الشويحطية في منطقة الجوف الذي يعود تاريخه إلى 1.3 مليون سنة، وموقع صفاقة قرب الدوادمي في منطقة الرياض، التي تعد أكبر مستوطنة للحضارة الآشولية بالجزيرة العربية التي يعود تاريخها إلى أكثر من 230,000 سنة، واستمر «العصر الحجري القديم» لما يقرب من 700 ألف سنة، وهو بذلك يعد الأطول في تاريخ البشرية.
ومع استمرار الأبحاث والاكتشافات الأثرية، قد تتغير التواريخ الحالية لتلك العصور. كما تلا «العصر الحجري القديم» «العصر الحجري الوسيط» الذي يرجع تاريخه إلى نحو 50 ألف سنة مضت، والذي وُجدت آثاره في مناطق مثل حائل وآبار حمى بمنطقة نجران. أما «العصر الحجري الحديث»، الذي يعود تاريخه إلى نحو 10 آلاف سنة قبل الميلاد، فقد ترك آثاره في مواقع عدة داخل المملكة، خاصة في المنطقة الشرقية التي تحوي مواقع عديدة تعود إلى حضارة العبيد، وكذلك في منطقتي الجوف وحائل التي يرجع تاريخها بين 5000 و3500 سنة قبل الميلاد. كان هذا العصر مرحلة تحول نحو المجتمعات المنتجة للغذاء عبر الزراعة، وظهرت فيه صناعة الفخار.
ومن أبرز الاكتشافات الحديثة التي تكشف عن رموز الثقافة العربية الأصيلة هي حضارة المقر، التي يعود تاريخها إلى أكثر من 9 آلاف سنة. تم اكتشاف هذه الحضارة في منطقة واقعة بين محافظة تثليث ومحافظة وادي الدواسر. وقد عُثر فيها على رموز تشير إلى الفروسية، استئناس الخيول، اقتناء الكلاب والحيوانات الأخرى، والتزين بالخناجر العربية. كما تضمنت الاكتشافات رسومات تعكس امتلاك سكان هذه الحضارة لتقنيات متقدمة في الصيد والزراعة.
ومع تطور الحياة البشرية وظهور المدن الكبيرة، نشأت على أرض الجزيرة العربية العديد من الممالك الحضارية التي لا تزال آثارها شاهدة على النشاط الحضاري المزدهر الذي سبق ظهور الإسلام. كان الإسلام نقطة تحول تاريخية وحضارية فارقة في تاريخ الجزيرة العربية، حيث شهدت المنطقة تفاعلًا حضاريًا أدى إلى قيام حضارات ودول إسلامية متعاقبة.
المملكة العربية السعودية ليست منطقة حديثة أو طارئة في التاريخ، بل تمتلك عمقًا تاريخيًا عريقًا. فهي موطن لعدة شعوب وممالك وحضارات إنسانية قديمة، تركت بصمات لا تُمحى على مسيرة البشرية. يعكس هذا الإرث الغني عمق وأهمية المملكة في التاريخ الإنساني، مما يجعلها واحدة من أبرز المناطق الأثرية والثقافية في العالم.