مشعل الحارثي
الماء أصل الأشياء وأنقى ما في الكون، وهو سر الوجود وصلة الوصل بالمعبود، وأرخص موجود وأغلى مفقود، وأساس بقاء الكائنات الحية على قيد الحياة، وفي مقدمتها الإنسان، وقد أشار المولى عز وجل إلى هذه الحقيقة الثابتة فقال في محكم التنزيل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (30) سورة الأنبياء..
وأصل كلمة الماء مأخوذة من (موه) فأبدلت الهمزة في الماء من الها، وفي جمعه يقال أمواه ومياه وفي تصغيره (موية)، ويقال موهت الشيء كأنك سقيته الماء، وعرف اصطلاحاً بأنه: (جسم رقيق مانع به حياة كل نام).
وقيل في وصف الماء أنه سيد الشراب، وقطرة منه أغلى من الذهب، وأنه بلا لون ولا طعم ولا رائحة، وهو يتألف من ذرة أوكسجين وذرتي هيدروجين. ويتجمد عند درجة الصفر المئوية ويغلي ويتحول إلى بخار عند درجة (100)، وأنه يأخذ شكل الإناء الذي يوضع فيه لأنه سائل، ويغطي 71 % من سطح الأرض وتبلغ نسبة الماء العذب من بين هذه النسبة 2.5 % فقط، وأغلب هذه الكمية وبنسبة 99 % توجد في الكتل الجليدية بالمناطق القطبية ونسبة 0.3 % من الماء العذب موجود في الأنهار والبحيرات والغلاف الجوي.
وتشير معظم التوقعات والدراسات أنه بسبب الحروب، والكوارث الطبيعية، وسوء التنمية وارتفاع درجات حرارة الأرض بفعل الأدخنة المتصاعدة والتي تهدد الغلاف الجوي، والاستخدام السيئ والجائر للموارد المائية، وتزايد عدد السكان فإن العالم موعود بجفاف كبير في الطبيعة.
وسبق أن دقت دراسة أمريكية صدرت مؤخراً ناقوس الخطر وجرس الإنذار لمستقبل الوجود الإنساني، وأوضحت بجلاء أن الماء الذي نشكو من نقصه اليوم، قد نبكي على فقدانه غداً، ثم ننعى الخسران المريع، إذا لم تعد دولنا العدة، وتتأهب وتهب بكل قوة من أجل تحالف إنساني، يقوم على تأمين الحقوق الشرعية من المياه لكل شعوب العالم، وألا تترك الأمور لمعاهدات ثنائية أو إقليمية تذهب أوراقها مع الريح لمجرد خلافات سياسية، أو احتقانات أيديولوجية.
وأوضحت هذه الدراسة أنه في العام 2050 سيحصل الفرد على أقل من مائة لتر يومياً، وهذا ما لا يكفي لاستحمام شخص واحد.. وذلك جراء النزيف الذي سيصيب الطبيعة وسوف يؤدي إلى كوارث قد تقدم بفعلها حروب تسمى الحروب المائية والوطن العربي. البقعة المهددة أكثر من غيرها ما يعني أن المصير العربي معلق بأيدي الآخرين.. إضافة إلى ذلك، فإن الاستهلاك غير المرشد للماء في البلدان العربية، ينخر من عظم هذا المورد الحيوي، الأمر الذي يتطلب منا جميعاً في هذه البقعة الجغرافية المهمة من العالم. أن نضع استراتيجية عربية مائية، تضمن للأجيال القادمة العيش الكريم، وأن تكون لنا كلمة في عالم اليوم بوضع الخطط التي تؤمن العلاقة بين دول المصب ودول المنبع بحيث لا نضع رقابنا رهينة في يد الآخرين.
وتجسيداً لهذا الوضع المفجع الذي ربما يحل بالبشرية فقد سرح بنا الشاعر المغربي سعد سرحان بخياله وتصور أحوال البشر والحياة بعد حلول كابوس ندرة وشح الماء من الحياة واطلق العنان لهذه التخيلات فقال: تخيلوا شمساً حارقة تنهب الأنهار والوديان والسواقي والآبار وتدسها في غيوم نهمة لا تمطر إلا فوق البحار والرمال وقد يحالفها الحظ فتمطر خارج الأرض تخيلوا أنفسكم أمام صنابير خرساء كلما لجأتم إليها لاذت بصهاريج العطش الطافحة بالفحيح، تخيلوا بيوتكم جافة تماماً، وعيونكم يملؤها القذى وملابسكم لها تلك الرائحة ودورات المياه، تخيلوا وقد صار الماء عملة صعبة ووضعت قناني الماء في خزائن فولاذية وبأرقام سرية، تخيلوا سيارة إطفاء تلهث عطشاً أمام حريق مهول، تخيلوا يوماً ممطراً والناس في الشوارع يفتحون أفواههم كالعصافير العطشى، تخيلوا الأشجار وقد اضربت عن الثمر، تخيلوا الشلالات والبحيرات وقد أضحت من اساطير الأولين، تخيلوا المساعدات التي تجود بها الدول المرتوية على الدول العطشى، تخيلوا جدة تحكي لأحفادها عن ترف قديم اسمه المسبح، تخيلوا راشياً يعطي رشوة من ماء، وصفقة عمولتها الماء، وعريساً يقدم صداقاً من ماء، وحملات للتبرع بالماء، تخيلوا مأتماً حيث المعزون يتهامسون كم ترك المرحوم من الماء؟ تخيلوا فقط هذا الهزيع الأخير من ليل البشرية مضرجاً بهذه الكوابيس الزرقاء بلا ندى بل لهاث وحشرجات ولهاث.
وبعد كل هذا ترى هل نعيد كأفراد وأسر وجماعات وشعوب حساباتنا من جديد في التعامل مع هذا المورد العظيم؟! ونعطيه من التقدير والاهتمام وحسن الترشيد ما يستحقه للمحافظة عليه من الزوال حتى لا نصل لمثل هذه الأحوال المخيفة.. والله المستعان.