خالد بن عبدالرحمن الذييب
التاريخ الإنساني مليء بشخصيات استطاعت أن تضع لنفسها بصمة لا تكاد تنسى، فمنهم المشاهير، ومنهم العظماء، وقلة هم أصحاب النقلات الإنسانية للحضارة البشرية. فأصحاب النقلات الإنسانية نوعية من البشر يمتد تأثيرها جغرافياً وزمانياً إلى أبعد مدى ممكن، وغالباً ما يكون تأثيرها إيجابياً على الإنسانية، على الرغم من بعض السلبيات، كما أنه يصعب تخيل تاريخ الإنسانية بدونهم، فأرسطو مثلاً امتد تأثيره «القوي» إلى حدود القرن الثامن عشر، حتى ولو اختلف البعض مع بعض تأويلاته، إلا أنه لا يمكن تخيل تاريخ البشرية بدون أرسطو.
المأمون يكاد يكون من السياسيين القلة الذين يمكن اعتبارهم أحد النقلات التي ساهمت بارتقاء البشرية. فحركة الترجمة التي بدأت في عهد المأمون بتلك الكثافة أمر لا يمكن إنكاره، وأتحدث هنا عن «الحركة، وليس «الفكرة» لأن الفكرة بدأت قبل المأمون مع خالد بن يزيد الأموي، وحبت على ركبتيها في عهد ابو جعفر المنصور الذي ترجم لكتب علماء الهند، والفرس ثم وقفت على قدميها في عهد هارون الرشيد بإنشائه دار الحكمة، ثم هرولت وانطلقت سريعاً وانتقلت من كونها «فكرة» إلى «حركة في عهد المأمون، والذي بدأ التوسع في ترجمة كتب اليونان حتى أنه يؤثر عنه أنه صالح ملك الروم مقابل اخذ ما عنده من كتب القدماء، وهنا تظهر احدى نقاط المأمون المضيئة، إذ يسمو عن كل الخلافات السياسية من أجل مكتبه وكأنه وضع السياسة كلها تحت قدميه ليرتقي عليها إلى مشاعل النور والفكر.
من إيجابياته أن حركة الترجمة عنده كانت وسيلة وليست هدفاً، فهو لم ينشئ مدارس أجنبية ليزيد عدد المتحدثين بلغة أجنبية، لم يكن يلهث خلف قشور الحضارات الأخرى بتعلم لغتهم وجعلها لغة رسمية للدولة، بل اكتفى بنخبة معينة من الناس لتقوم بترجمة هذه العلوم للأمة، فحنين بن اسحاق، واسحاق بن حنين كانوا هم «النخبة المترجمة»، أما غيرهم من العلماء كانوا «النخبة المفكرة».
من جانب اخر، فإن أكثر ما يعاب على المأمون، هو وقوفه «علمياً» بجانب طرف ضد طرف آخر، فلا شك أن ذلك من أكبر عيوب المأمون التي تتناقض مع شخصيته المحبة للعلم، والفكر والفلسفة، فمن يحب العلم يجب أن يكون مؤمناً بالعلم للعلم، ومستعداً للاختلافات والآراء المتعددة والمتنوعة، فلا يوجد في الفكر والفلسفة أبيض وأسود، فهناك منطقة رمادية كان على المأمون كمحب للفلسفة والفكر أولاً، وكخليفة للمسلمين ثانياً أن يراعيها، ولا يتجاوزها.
وأخيراً ...
لا أدري لماذا مسكت القلم وكتبت ما كتبت!!
ولكنها خواطر تسبح حول فضاءاتي...
ما بعد أخيراً ...
اغمض عينيك واسترخِ، وتخيل التاريخ بدون المأمون.