د. منى بنت علي الحمود
حظي الذهب بتقدير واسع عبر الثقافات المتعددة، حتى يومنا هذا فهو سر الغموض واللمعان السافر في ذات الوقت، الذي يجسّد العديد من المفاهيم التي تتعلق بجوهر الوجود الإنساني.. فقد ارتبط الذهب في الحضارات القديمة بالنور الإلهي والقوّة السماوية وضوء الشمس الأبدي الذي يمنح القوة والسلطة والروحانية الأرضية، وتشير الدراسات التاريخية إلى العثور على العديد من المخطوطات التي دلت على انشغال كثير من العلماء والفلاسفة في الحضارات القديمة والعصور الوسطى في البحث عن وجود مادة سحرية تسمى «حجر الفلاسفة» أو «الاكسير» يمكن بواسطتها تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، كما يمكنها تحويل الإنسان إلى فيلسوف حكيم، في حالة التقاء بين العلم والشعوذة، ولم يكن اهتمام الفلاسفة والحكماء بالإكسير للحصول على معدن الذهب فحسب، بقدر تحويل معدن الإنسان إلى معدن الفضيلة والحكمة.
الذهب علاقة آخرية مبكرة بين الذات الأنثوية وبين الوجود فبعد الولادة يشرع الأهالي بثقب أذن الانثى تأكيدا على هويتها وتمييزاً لها عن الأنواع الأخرى من جنسها.. يحمل الذهب في أغلب الثقافات قيمة أخلاقية تحمل الخير بداخلها فمع حلقة صغيرة مفرغة منه تبدو الرغبة بالارتباط والعطاء والشراكة فيقدمه الذكر للأنثى رمزية على هذه القيمة الإنسانية السامية التي تنطوي على رغبة البقاء والاستمرارية الوجودية من خلال تكوين الأسرة وترك الأثر.
يخرج الذهب إلى دلالات أخرى معيارية حيث ظهرت قصائد من الشعر تستعرض الحلي، ما بين تغزل الشعراء في جمال النساء من خلال وصف حليهن كجزء من جمالهن كقول عنتر بن شداد: «شكا نحرها من عقدها متظلما»، أو مديح وتشبيه الذوات العلية بالذهب بل وأثمن منه كمديح المتنبي:
«وإذا تتوج كنت درة تاجه
وإذا تختم كنت فص الخاتم»
يشكل الذهب مصدرا للثروة والأمن المالي، فالقيمة الجوهرية له تتجاوز التقلبات الاقتصادية، فجعلت منه وسيلة للتبادل والادخار .. لكنه عندما تبيع النساء الذهب هو باختصار اقتطاع جزء من ذاتها وذكرياتها ومشاعرها لتجعلها في يد آخر يصهرها ليعيد تكوين المشهد والأحداث من جديد، أو يعرضها لذات آخرية (لمقتني آخر) سيشهد معها حياة جديدة بقيم على أغلب الظن ألا تكون كسابقتها.. والغريب هو استمرارية السرديات الدرامية في مخيلة الأنثى لقطعة الذهب التي باعتها، بأحداث ما ورائية للعلاقات الآخرية بين قطعة الذهب التي أصبحت جزءا من هويتها والذات الأخرى التي اقتنتها.
جمود السبائك الذهبية يجردها من تلك المشاعرية والعلاقة الوجودية.. فتفتقد لتلك الحكايات التي تبدأ النساء بروايتها وهن يقلبن ويصنفن قطع الذهب المعدة للبيع، فلكل قطعة حكاية تتخطى الزمان والمكان ولكنها تحتفظ بالنكهة ذاتها، وفي لحظة الغياب الوجودي للأنثى فإن ذهبها يوزع بين وريثاتها من قريباتها.. والغريب هنا أيضاً أنه عندما ترتدي البنات ذهب أمهاتهن فمن المربك أنهن يشعرن وكأنهن بنفس ذاتها وجوهرها.