أ.د.عثمان بن صالح العامر
توقفت صبيحة ذات يوم متأملاً في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي جاء فيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر)).
قارنت بين هذا التوجيه النبوي الشريف، وما قد يواجهه بعض المسؤولين من قبل العاملين معهم القريبين منهم من إيغار صدورهم وشحن نفوسهم ضد زملائهم الذين يعتقدون أنهم منافسون لهم، وقد يتميزون عنهم، وربما سلبوهم المنزلة التي هم فيها، وقد يأخذون شيئاً من المزايا النسبية - مالية كانت أو معنوية - التي يتمتعون بها جراء قربهم من صانع القرار، والنتيجة الطبيعية هي ما خاف منه خير البشرية محمد -صلى الله عليه وسلم-، ألا وهو (إيغار الصدر)، فنبه أصحابه رضوان الله عليهم جميعاً إلى ما يحب، وطلب منهم أن يكفوا عن نقل ما قد يفسد قلبه على أحد من أصحابه، وهذه الرغبة منه -عليه الصلاة والسلام- تأتي في ذات السياق الذي نهى فيه الإسلام عن الغيبة والنميمة معتبراً إياهما من الذنوب العظام كما هو معلوم.
أحياناً نعيب على المسؤول قائلين عنه: (مشكلته أنه يسمع الكلام)، ونتناسى أنه بشر، معرفته مهما عظمت بمن حوله تظل محدودة، ومن الطبيعي وهو على قمة الهرم في هذه المؤسسة أو تلك وينشد النجاح والتميز فيما ندب له وائتُمن عليه من قبل ولي الأمر الذي وثق به أن يسمع ما يقال خاصة عن القياديين، ومديري الإدارات والأقسام لديه، وأن يفلتر ويفرز ويتابع ويسأل، ومن ثم يحاسب وقد يعاقب، ولكن لا يتخذ ما يقال على عواهنه مهما كانت ثقته بقائله.
ليس هذا المثال الوحيد الذي يمكن الحديث عنه هنا، فالأم مثلاً وهي أحن مخلوق قد توغر صدر زوجها على أحد أولادها وهي لا تعلم، وأشد منها فتكاً وإيغاراً زوجة الأب على الأبناء من زوجته الأخرى، ومن القصص التي أذكرها ولا يمكن أن أنساها: كنت مع أحد الزملاء في رحلة خارجية وعندما خرجنا من الفندق طلبنا سيارة أجرة توصلنا للمطار، ركبنا معه ولم نكن نعرف أنه عربي، صرت أتحدث لزميلي بالعربية، فسألنا بما تبقى عنده من الحرف العربي المكسر: هل أنتم عرب، ومن أين؟ أخبرناه أننا من المملكة العربية السعودية التي تضم الحرمين الشريفين، فسرد قصته بشكل مفصل موجزها يقول: (أنا أصلي جزائري والآن أمريكي الجنسية، توفيت أمي ولي أخوان وأخت كنّا صغاراً، فتزوج أبي بفتاة تصغره كثيراً فصارت توغر صدره علينا جميعاً لتتفرد به فدعا علينا دعوة لا زالت ترن في إذني حتى الآن (الله يجعل بيننا وبينكم بحارا فلا أصل إليكم ولا تصلون إليّ)، وما هي إلا سنوات قليلة بعد هذه الدعوة حتى صار كل واحد منا ببلد، وتوفي السنة الماضية وهو على فراش الموت كان يتمنى أن يصل إلينا ونراه ويرانا، ولكن هيهات، مستحيل أنا كما ترى في نيويورك وأخي في إيطاليا والثالث في ألمانيا وأختنا في السويد وبيننا وبين قبره البحار التي تمناها، كل هذا من إيغار صدره علينا التي تراسلني الآن تطلب أن نسامحها).
قد نمارس هذا السلوك المشين، ونحن غافلون أو أننا متغافلون عمّا قد يحصل من نتائج مستقبلية جراء هذا الفعل المنكر، وربما تسبب أي منا على صديقه أو جاره أو قريبه أو زميله أو حتى ولده بما لا تحمد عقباه نتيجة كلام عارض استقر في صدر متلقيه، فكان له ردة فعل لم تكن في الحسبان، فلنكن كما أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا في حق من علم يقيناً خطره وضرره المتعدّي حتى ولو كان في الظاهر منا، ويعيش معنا فحماية سفينة المجتمع ووقاية الناس من شره مقدم على غيره في نظر الشارع الحكيم، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.